رغم مرور أكثر من عقد على بدء الدول الأفريقية خطوات فعلية نحو تحرير التبادل التجاري فيما بينها، لم ترَ اتفاقية التجارة الحرة الأفريقية النور رسميًا إلا في مطلع عام 2019، بعد مسار تفاوضي طويل، واكتمل الانضمام إليها مؤخرًا بشكل جزئي، مع بقاء إريتريا خارج دائرة التصديق حتى الآن.
بدأ تنفيذ بنود الاتفاقية في يناير/كانون الثاني 2021، عقب انتخاب وامكيلي ميني أول أمين عام لها، وتحديد مدينة أكرا في غانا مقرًا للأمانة العامة. تطمح الاتفاقية إلى إنشاء سوق موحدة تضم 55 دولة، ويبلغ عدد سكانها 1.3 مليار نسمة، بإجمالي ناتج محلي يتجاوز 3.4 تريليونات دولار، وهي خطوة يراها كثيرون مفتاحًا لتحويل القارة إلى قوة اقتصادية مؤثرة.
طموحات كبرى تواجه تحديات الواقع

وصفت صحيفة “إيكونوميست” اتفاقية التجارة الحرة الأفريقية بأنها واحدة من أبرز إنجازات الاتحاد الأفريقي، لكنها أشارت إلى أن مكاسبها لن تكون موزعة بالتساوي. فهناك دول تفتقر للبنية التحتية الأساسية، وأخرى تعاني من آثار النزاعات والعنف، ما يجعل التنفيذ الفعلي رهين تعاون سياسي عميق وصبر طويل.
البنك الدولي توقع أن تسهم الاتفاقية في زيادة الناتج المحلي الإجمالي للقارة بنسبة 7%، أي ما يعادل 450 مليار دولار بحلول عام 2035، عبر خفض الرسوم الجمركية وإزالة الحواجز غير الجمركية. كما يُنتظر أن تساهم في إخراج 30 مليون شخص من الفقر المدقع، و68 مليونًا من الفقر المتوسط، من خلال تعزيز التجارة البينية وزيادة القيمة المضافة للمنتجات.
أسباب التأخير.. البيروقراطية والانقسامات

يُرجع الخبراء تأخر ولادة اتفاقية التجارة الحرة الأفريقية إلى عدة عوامل، أبرزها البيروقراطية التي تميز العديد من الحكومات الأفريقية، وترددها في فتح الأسواق أمام المنافسة الإقليمية. الأكاديمي الكيني الأميركي ديفيد موندا يرى أن بعض الأنظمة تخشى فقدان السيطرة على التجارة، وهو ما تعتبره تهديدًا لاستقرارها السياسي.
كثرة التكتلات الاقتصادية داخل القارة والانقسام اللغوي بين الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية، إضافة إلى مخاوف الدول ذات الاقتصادات الصغيرة من المنافسة غير المتكافئة، كلها عناصر جعلت مسار التكامل الاقتصادي أبطأ مما كان متوقعًا.
تقدم محدود بعد خمس سنوات

بعد مرور نحو خمس سنوات على توقيع اتفاقية التجارة الحرة الأفريقية، لا تزال حصيلة التقدم الفعلي محدودة. فالدول الأفريقية مجتمعة لا تمثل سوى أقل من 3% من التجارة العالمية، والتجارة البينية داخل القارة تبقى الأضعف مقارنة بالتكتلات الاقتصادية الكبرى في العالم.
التحديات السياسية والأمنية تزيد الوضع تعقيدًا، إذ تواجه بعض الدول ضعف السيطرة على الحدود، بينما تعاني أخرى من الحروب وتغير المناخ وضعف المؤسسات. ومع ذلك، شهد عام 2022 إطلاق مبادرة “التجارة الموجهة” التي تضم 30 دولة، في خطوة وصفت بأنها بداية عملية لتطبيق الاتفاقية.
البنية التحتية.. العائق الأكبر

يوضح تقرير اقتصادي صادر عن الأمم المتحدة أن أكبر العقبات أمام تحقيق أهداف اتفاقية التجارة الحرة الأفريقية تكمن في النقص الحاد في البنية التحتية الأساسية التي تحتاجها القارة لزيادة كفاءة التبادل التجاري. فالكثير من الطرق الرئيسية تعاني من التآكل وسوء الصيانة، ما يؤدي إلى بطء حركة الشاحنات وارتفاع تكلفة النقل بين الدول. كما تشهد شبكات الكهرباء انقطاعات متكررة تعطل الإنتاج الصناعي، في حين تفتقر بعض الموانئ إلى التجهيزات الحديثة والقدرة التشغيلية اللازمة لاستقبال أحجام أكبر من البضائع.
الأمين العام للاتفاقية، وامكيلي ميني، أكد مرارًا أن هذه التحديات ليست آنية، مشيرًا إلى أن فجوة البنية التحتية في أفريقيا تُقدر بحوالي 100 مليار دولار. هذا الرقم الضخم يعكس الحاجة إلى استثمارات طويلة الأمد، وخطط تطوير شاملة تشمل الطرق، والمطارات، والموانئ، وشبكات الطاقة، لضمان انسيابية حركة السلع والخدمات بين الدول الأعضاء، وتمكين الاتفاقية من تحقيق أهدافها الطموحة في خلق سوق أفريقية موحدة وفاعلة.
الحاجة إلى إرادة سياسية وآليات فعالة
لكي تحقق اتفاقية التجارة الحرة الأفريقية أهدافها، يشدد الخبراء على ضرورة وضع أطر مؤسسية واضحة، وتوحيد اللوائح التنظيمية بين الدول، والتوسع في التجارة الرقمية التي لا تزال غير مستغلة بالشكل الأمثل. كما يرون أن تعزيز الآليات الاقتصادية الإقليمية في كل منطقة جغرافية سيجعل الانتقال إلى التكامل القاري أكثر واقعية.
موندا يؤكد أن تنويع الإنتاج وإضافة القيمة إلى المواد الخام داخل القارة، بدلًا من تصديرها خامًا، سيعزز القدرة التنافسية ويزيد حجم التجارة البينية، ما يقرب القارة خطوة أكبر نحو تحقيق سوق مشتركة متكاملة.
تعرف المزيد: التعاون الاقتصادي بين الجزائر والصومال 2025: شراكة استراتيجية لتعزيز التنمية والاستقرار
اتفاقية التجارة الحرة الأفريقية تمثل فرصة تاريخية للقارة السمراء لإعادة رسم خريطة اقتصادها، لكنها في الوقت نفسه اختبار لقدرتها على تجاوز الانقسامات، وحل مشكلات البنية التحتية، وتعبئة الإرادة السياسية نحو هدف مشترك. النجاح لن يأتي بين ليلة وضحاها، لكنه ممكن إذا التزمت الدول بتطبيق بنود الاتفاقية بروح الشراكة والتكامل، بدلًا من منطق التنافس الضيق.