في خضم المشهد السياسي المضطرب في الصومال، يبدو أن النقاش العام لا يزال أسيرًا للسطح، يلاحق تحولات التحالفات، وخصومات الزعماء، وتبدل الولاءات العشائرية، متجاهلًا الجذور العميقة للأزمة. الأزمة الفيدرالية في الصومال لم تعد مجرد قضية تقنية أو بنية قانونية غامضة، بل تحولت إلى معضلة وطنية تهدد استقرار الدولة. ورغم تعدد الكتابات والتحليلات السياسية، نادرًا ما يُسلط الضوء على السياق الدستوري الغائب، أو يُقدَم تشخيص عملي يضع البلاد على طريق بناء دولة قادرة على استيعاب خلافاتها ضمن مؤسسات قوية.
أزمة الفيدرالية في الصومال ليست مجرد خلاف سياسي
في الوقت الذي يتكرر فيه الحديث عن ضعف القيادة والانقسامات السياسية، يبقى جوهر المشكلة دون معالجة: مؤسسات غائبة، ودستور مؤقت مليء بالثغرات، وإطار فيدرالي غير مكتمل هو سبب وليس نتيجة التفرّق والانقسام الحاصل. وهنا، تظهر الأزمة الفيدرالية في الصومال بوصفها الحلقة المفقودة في أي تحليل يسعى لفهم عمق المأزق السياسي الراهن.
فجوة دستورية أم أزمة وطن؟
يُجمع المراقبون على أن التوترات بين الحكومة الفيدرالية والولايات الإقليمية ليست مجرد خلافات عابرة، بل انعكاس لفراغ دستوري مزمن. المادة 54 من الدستور المؤقت، التي تؤجل حسم قضايا مركزية مثل تقاسم الموارد والصلاحيات الأمنية، تحوّلت إلى ساحة صراع بدلًا من أن تكون أداة تنظيم. الأزمة الفيدرالية في الصومال لا تكمن في مبدأ الفيدرالية ذاته، بل في غياب آليات واضحة تنظم العلاقة بين المركز والأقاليم، وتجعل النزاع السياسي قابلًا للإدارة بدلًا من أن يكون مشروع انهيار.
استمرار غياب المحكمة الدستورية، واللجان المستقلة، وآليات فض النزاعات، يعمق الفجوة بين ما ينص عليه القانون وبين ما يُطبّق فعليًا على أرض الواقع. وفي هذا السياق، تبرز الأزمة الدستورية كعائق رئيسي أمام بناء دولة تحتكم للقانون بدلًا من الولاء.
الأزمة الفيدرالية في الصومال.. والخطأ التحليلي
تلعب وسائل الإعلام دورًا مهمًّا في تشكيل الوعي العام، لكن في الحالة الصومالية، غالبًا ما تنزلق التغطيات إلى تبسيط مفرط للأحداث، وتصوير النزاعات السياسية كصراعات شخصية أو عشائرية. في المقابل، تغيب القراءة الدستورية، ويُهمَّش تفسير الخلفيات القانونية للنزاع. هذا يُنتج سردية تُعيد إنتاج الأزمة بدلًا من تفكيكها.
الأزمة الفيدرالية في الصومال نادرًا ما تُطرح في الإعلام المحلي باعتبارها مشكلة مؤسساتية، بل تُختزل في انقسامات تقليدية. والنتيجة أن الجمهور يظل متلقيًا سلبيًا بدلًا من أن يتحول إلى طرف فاعل في بناء نظام حكم مستقر. المطلوب اليوم هو خطاب إعلامي تعليمي، يُفسر لا يُثير، ويُقدم عمقًا لا سطحًا.
الولاءات العشائرية أم غياب الإطار المؤسسي؟
من السهل تعليق شماعة الفشل على الانتماءات العشائرية، لكن الحقيقة أن الولاء القبلي يملأ فراغًا خلفته الدولة، لا العكس. حين تغيب المؤسسات المستقلة، وتُترك السلطة التنفيذية دون رقيب، تصبح العشيرة المرجع الوحيد، والضمان الوحيد، ولو مؤقتًا، للأمان والمصالح.
في قلب الأزمة الفيدرالية في الصومال يكمن هذا التناقض: فيدرالية بلا حواجز دستورية، وقيادات تتحدث باسم الفيدرالية بينما تعمل بمنطق الأحادية. لقد تحول النظام السياسي إلى ساحة ارتجال، لا تُضبطها قواعد، بل تُسيرها تفاهمات ظرفية تتغير مع كل أزمة جديدة. وفي هذا المناخ، لا يمكن بناء ثقة، ولا حتى وهمها.
الفيدرالية المنشودة… من أزمة إلى فرصة
الفيدرالية ليست حلًّا سحريًا، لكنها أيضًا ليست المشكلة. ما ينقص الصومال ليس “نية سياسية”، بل بنية دستورية تترجم الطموحات إلى نظام حكم قابل للحياة. ينبغي أن نعيد النظر، الأزمة الفيدرالية في الصومال باعتبارها فرصة إصلاح لا مجرد مأزق. بتأسيس محاكم اتحادية مستقلة، ولجان دستورية واضحة، وآليات محايدة لحل النزاع، يمكن تحويل الصراع المزمن إلى حوار مؤسسي منتج.
تجارب الدول الأخرى تثبت أن الفيدرالية تنجح حين تُدار بقواعد شفافة ومؤسسات راسخة. أما حين تترك لموازين القوة والولاء، فإنها تؤول إلى تفكك. الصومال ليست استثناء، لكنها تحتاج إرادة وطنية تضع استكمال البناء الدستوري على رأس الأولويات.
تعرف المزيد: أهمية دعم الرضاعة الطبيعية في الصومال 2025: من التحديات إلى بناء أنظمة مستدامة
الطريق نحو فيدرالية حقيقية في الصومال
إن تجاوز أزمة الفيدرالية في الصومال يتطلب تحولًا في طريقة التفكير، وفي أدوات النقاش العام. لا يكفي أن نحلل الصراع، بل علينا أن نُعيد تصميم الإطار الذي يُدار فيه. الدولة لا تُبنى عبر الخطابات، بل عبر المؤسسات. وهذه المهمة ليست حكرًا على السياسيين، بل تبدأ من الكُتاب، والمثقفين، والإعلاميين، الذين تقع عليهم مسؤولية إعادة تعريف الأزمة من جذورها، وطرح حلول تُخرج الفيدرالية من أسر الشعار، إلى واقع قابل للتطبيق.