في ظل الانتشار المتسارع لأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت المحاكم حول العالم تواجه تحديات غير مسبوقة بسبب استخدام الذكاء الاصطناعي في المحاكم، خاصة في إعداد المستندات القانونية والمرافعات. وفي سابقة لافتة، أصدر أحد كبار القضاة في المملكة المتحدة تحذيرًا شديد اللهجة للمحامين، مؤكدًا أن الاعتماد على بيانات أو قضايا وهمية أنشأها الذكاء الاصطناعي دون تحقق قد يؤدي إلى اتهامات جنائية وخرق للمعايير المهنية. هذه القضية تعيد طرح تساؤلات جوهرية حول دور التكنولوجيا في النظام القضائي وحدود استخدامها الأخلاقي.
قاضٍ في المحكمة العليا: استخدام الأدوات التوليدية غير آمن

في حكم صدر خلال يونيو الماضي، نبّهت القاضية فيكتوريا شارب، رئيسة قسم King’s Bench في المحكمة العليا البريطانية، إلى المخاطر المرتبطة بالاعتماد على أدوات مثل ChatGPT في إجراء البحوث القانونية. وأوضحت أن هذه الأنظمة غير قادرة على تقديم بحث قانوني موثوق، محذّرة من تداعيات خطيرة على العدالة وثقة الجمهور بالنظام القضائي إذا أسيء استخدام الذكاء الاصطناعي.
قضيتان تكشفان خللًا خطيرًا: قضايا قانونية وهمية
أثار الحكم انتباه الرأي العام القانوني بعد أن استعرضت المحكمة العليا حالتين استخدم فيهما محامون معلومات غير دقيقة يُعتقد أنها مستخرجة من أدوات ذكاء اصطناعي.
في القضية الأولى، المعروفة باسم Ayinde، قدم محامي المدعي خمس قضايا غير موجودة كأدلة لدعم مرافعته. رغم إنكار المحامية لاستخدامها لأي أداة ذكاء اصطناعي، إلا أنها لم تتمكن لاحقًا من إثبات مصادر القضايا.
أما في قضية الهارون، فقد تبين أن 18 مرجعًا قانونيًا من أصل ما قدمه المحامي غير موجود، أو خاطئ جزئيًا، حيث اعتمد على بحث أجراه موكله دون التحقق منه.
الذكاء الاصطناعي في المحاكم: غرامات اليوم.. ولا تهاون غدًا
في قضية Ayinde، أصدرت المحكمة أمرًا بتغريم الفريق القانوني للمدعي 2,000 جنيه إسترليني، كما أُحيل المحامون إلى هيئة تنظيم المحامين (SRA) ومجلس معايير المحامين (BSB).
أما في الهارون، فقد أبلغ المحامي نفسه الهيئة التنظيمية، وأكدت المحكمة أنه رغم عدم استيفاء عتبة الازدراء، فإن المخاطر المهنية قائمة.
تحذيرات مهنية متزايدة من “هلوسة” الذكاء الاصطناعي في المحاكم

ليست المملكة المتحدة وحدها من تواجه تحديات “الهلوسة القانونية” الناتجة عن الذكاء الاصطناعي. ففي قضية Mata ضد Avianca Inc في الولايات المتحدة (2023)، واجه محامون اتهامات بسبب تقديم مستندات تحتوي على قضايا مختلقة أنشأها ChatGPT.
في هذا السياق، أصدرت نقابة المحامين الأمريكية رأيًا أخلاقيًا يُلزم المحامين بتحمل المسؤولية الكاملة عن كل ما يُقدم للمحكمة، حتى إن كان مولّدًا بواسطة الذكاء الاصطناعي.
إرشادات صارمة وتوصيات للتعامل المهني
أصدرت الهيئات التنظيمية البريطانية، وعلى رأسها مجلس نقابة المحامين، إرشادات في عام 2024 بعنوان: اعتبارات عند استخدام ChatGPT وأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي. وتؤكد هذه الإرشادات أن تقديم محتوى كاذب أو مضلل، حتى لو لم يكن متعمدًا، يُعتبر إهمالًا جسيمًا وقد يؤدي إلى إجراءات قانونية ومهنية.
وتنص الإرشادات القضائية الصادرة في أبريل 2025 على أن: جميع الممثلين القانونيين مسؤولون عن دقة وملاءمة ما يقدمونه للمحاكم، وتحذر من الاعتماد على أدوات لا يمكن التحقق من نتائجها بشكل مستقل.
نحو رقابة بشرية وتدريب إلزامي في مهنة المحاماة
يرى خبراء القانون أن الحل يكمن في الرقابة البشرية الفعّالة، حيث يؤكد بول مارمور، رئيس قسم التقاضي في شركة Sherrards، أن المحامين الكبار أكثر قدرة على اكتشاف الأخطاء والمواد المزيفة، سواء التي يستخدمها فريقهم أو الطرف الآخر.
كما يدعو إلى تقييد المحامين المبتدئين من استخدام الذكاء الاصطناعي في المحاكم ، وحصره في مهام غير حرجة مثل إعداد محاضر الاجتماعات.
ضرورة التدريب والإفصاح لتعزيز الشفافية
من جهته، يطالب كريس هوارد من لجنة مستقبل الخدمات القانونية في IBA، باستخدام أدوات ذكاء اصطناعي قانونية موثوقة خاضعة للإشراف البشري.
بينما ترى ميليسا ستوك، المحامية وعضو هيئة تحرير قانون الأعمال في IBA، أن الطريق إلى الأمام يتطلب إلزام المحامين بالإفصاح عن استخدام الذكاء الاصطناعي في المحاكم أثناء مرافعاتهم، مع تحديد موضع استخدامه، ما يعزز الشفافية ويمنع إساءة الاستخدام.
الذكاء الاصطناعي في المحاكم قادم.. ولكن وفق ضوابط

تتفق جميع الآراء القانونية على أن الذكاء الاصطناعي في المحاكم لن يُستبعد من مهنة المحاماة، بل سيُعتمد عليه بشكل متزايد في أداء المهام القانونية وتحسين كفاءة العمل داخل المؤسسات القضائية.
تعرف المزيد: الذكاء الاصطناعي والموضة: هل بدأ عصر جديد من الأناقة الرقمية؟
لكن في المقابل، يجب ألا يهدد ذلك المعايير الأساسية للمهنة، كالدقة، والسرية، والمسؤولية المهنية. وبينما قد توفر هذه الأدوات الكفاءة والسرعة، فإن استخدامها دون تحقق أو إشراف قد يُكلّف المحامي سمعته، وربما مستقبله المهني.