النفوذ التركي في الصومال، لم تعد السياسة في الصومال تُدار من الداخل كما كانت يومًا، بل باتت خيوطها تمتد إلى عواصم إقليمية ودولية، في مقدمتها أنقرة.فقد كان الهدف من إنشاء النظام الفيدرالي في الصومال هو تحقيق توازن بين الحكومة المركزية والولايات، إلا أن الواقع سار في اتجاه مختلف. بمرور الوقت، تحولت هذه الهياكل إلى ساحات نفوذ مفتوحة أمام قوى خارجية تسعى لترسيخ وجودها داخل البلاد.
وفي مقدمة هذه القوى برزت تركيا، التي دخلت المشهد بشعار “الشراكة في التنمية”، لكنها استطاعت أن تتجاوز هذا الإطار لتصبح جزءًا من معادلة القرار الصومالي. ومع تعمّق حضورها، تحول النفوذ التركي في الصومال إلى ملف إقليمي حساس يصعب تجاهله.
من المساعدات إلى النفوذ

في البداية، بدا الدور التركي خطوة إيجابية لإعادة إعمار ما دمرته الحروب. مدارس، مستشفيات، وطرقات حملت اسم تركيا. لكن هذه الصورة الوردية لم تدم طويلًا.
مع الوقت، صار واضحًا أن النفوذ التركي في الصومال تجاوز حدود المساعدات إلى التأثير في مفاصل الدولة. فأنقرة اليوم تُدرب القوات الصومالية، وتدير منشآت حيوية في العاصمة، وتتحكم في مشاريع استراتيجية تجعلها لاعبًا لا يمكن تجاوزه في أي قرار داخلي.
الإمارات.. حضور اقتصادي لا سياسي

في المقابل، تسير الإمارات في مسار مختلف داخل الصومال. فتركيزها ينصب على تطوير الموانئ والبنية التحتية في مدن مثل بربرة وبوساسو وكيسمايو، إلى جانب استثمارات أسهمت في تنشيط حركة التجارة وتوفير فرص عمل حقيقية.
ورغم حجم هذه المشاريع، فإن أبوظبي تتجنب التدخل في تفاصيل السياسة الصومالية أو إدارة مؤسسات الدولة، ما يجعل وجودها أقرب إلى شراكة اقتصادية مستقرة. على النقيض من ذلك، يمتد النفوذ التركي في الصومال إلى عمق الأجهزة الأمنية والسياسية، ليترك أثرًا أوضح على موازين القرار والسيادة.
توازن هش بين الداخل والخارج

الحكومة الصومالية تجد نفسها اليوم بين خيارين صعبين: الحفاظ على الدعم الخارجي الذي تحتاجه لبناء الدولة، أو مقاومة التغلغل الذي يهدد استقلال قرارها.
فبينما تحاول مقديشو الموازنة بين حلفائها، يتسع النفوذ التركي في الصومال ليشمل التدريب العسكري، والمشاريع المدنية، وحتى الخطاب الإعلامي، مما يجعل التوازن شبه مستحيل.
هيمنة ناعمة بأدوات مختلفة
ما يميز النفوذ التركي في الصومال أنه لا يعتمد على القوة، بل على أدوات “ناعمة” كالمساعدات، والتعليم، والدبلوماسية.
هذه الأدوات منحت أنقرة قدرة على كسب تعاطف شعبي وولاء إداري داخل بعض المؤسسات، وهو ما يترجم عمليًا إلى نفوذ سياسي يتجاوز مجرد التعاون. ومع كل خطوة جديدة، يتقلص هامش القرار المحلي المستقل.
نفوذ إقليمي بثوب إنساني

الوجود التركي في الصومال ليس معزولًا عن حسابات أكبر في القرن الأفريقي. فالموقع الجغرافي للصومال يمنح أنقرة فرصة لتوسيع نفوذها على سواحل البحر الأحمر والمحيط الهندي.
ولذلك فإن النفوذ التركي في الصومال يخدم أهدافًا أبعد من حدود التنمية، ليصبح جزءًا من مشروع إقليمي متكامل يمنح تركيا موطئ قدم دائم في واحدة من أكثر المناطق حساسية في أفريقيا.
الخروج من دوامة التبعية
التحرر من تأثير القوى الخارجية يتطلب من الصومال إعادة تقييم شراكاتها، ووضع أسس جديدة للتعاون قائمة على المصلحة الوطنية أولًا.
فلا يمكن بناء دولة مستقلة في ظل النفوذ التركي في الصومال بهذا الحجم والتأثير.
استعادة القرار تبدأ من الداخل، من توحيد الرؤية، ومن رفض أي وصاية تُفرض عبر المساعدات أو المشاريع.
تعرف المزيد: التصعيد الإسرائيلي في لبنان.. مرحلة جديدة من المواجهة المفتوحة
يبقى النفوذ التركي في الصومال مثالًا واضحًا على العلاقة المعقدة بين التنمية والسيطرة. فحين تختلط المساعدات بالسياسة، تضيع الحدود بين الشراكة والهيمنة.
ومستقبل الصومال سيتوقف على قدرته في التمييز بين من يساعده على النهوض، ومن يحاول أن يصنع منه ساحة نفوذ جديدة.
