منذ أكثر من عقدين، لم يخرج الوجود العسكري الأمريكي في الصومال من دائرة الجدل. فبينما تراه واشنطن وسيلةً لمكافحة الإرهاب ودعم الدولة الصومالية، ينظر إليه كثير من الصوماليين باعتباره تدخلًا يؤخر بناء مؤسساتهم الوطنية ويزيد من تعقيد المشهد السياسي الداخلي.
اليوم، ومع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تتجدد التساؤلات: هل ستبقى القوات الأمريكية في الصومال، أم أن الانسحاب بات خيارًا قريبًا؟
الوجود العسكري الأمريكي في الصومال.. تردد وارتباك داخلي
تبدو إدارة ترامب في حالة تردد واضحة بشأن الوجود العسكري الأمريكي في الصومال. فالرئيس لا يخفي ضيقه من “الحروب الأبدية”، لكنه يدرك أيضًا أن الخروج المتسرع قد يفتح الباب أمام تمدد حركة الشباب ويهزّ التوازن الهش في القرن الأفريقي.
في المقابل، يعيش الداخل الصومالي حالة انقسام سياسي متزايد بين الحكومة الفيدرالية في مقديشو والولايات الأعضاء، وعلى رأسها بونتلاند وأرض الصومال، ما يجعل البلاد في وضع لا يسمح باستيعاب أي فراغ أمني محتمل تتركه واشنطن.
الانقسامات الفيدرالية تعطل التقدم

منذ اعتماد النموذج الفيدرالي في 2012، لم تتمكن الحكومة الصومالية من تحقيق التوافق المطلوب حول توزيع السلطة والثروة. وباتت الخلافات بين مقديشو والولايات تعيق بناء جبهة موحدة في مواجهة التحديات الأمنية.
تعليق بونتلاند تعاونها مع الحكومة عام 2023 كان مؤشرًا على عمق الأزمة، فيما تفاقمت التوترات أكثر خلال عامي 2024 و2025 بسبب الخلافات حول الإطار الانتخابي واستعداد البلاد لاستحقاق 2026.
هذا التشتت الداخلي جعل الوجود العسكري الأمريكي في الصومال يبدو كأنه الضمانة الوحيدة لاستمرار الضغط على حركة الشباب، لكنه في الوقت نفسه تحول إلى عبء سياسي تستخدمه الأطراف المتنافسة لتبادل الاتهامات بشأن “من يعتمد أكثر على الدعم الخارجي”.
واشنطن ومأزق الشركاء المنقسمين

تجد الولايات المتحدة نفسها أمام معضلة مزدوجة: فهي من جهة ترى في بقاء قواتها وسيلة لحماية مصالحها ومنع تحول الصومال إلى ملاذ للتنظيمات المسلحة، لكنها تدرك من جهة أخرى أن استمرار الوجود العسكري الأمريكي في الصومال دون إصلاح سياسي داخلي سيجعل دعمها أشبه بإبقاء دولة على أجهزة الإنعاش.
في واشنطن، تنقسم الآراء بين تيار يدعو إلى الانسحاب السريع وإنهاء “الحروب الطويلة”، وآخر يطالب بتحويل التركيز نحو أرض الصومال ذات الحكم الذاتي القادرة على حفظ استقرارها الداخلي. لكن أي ميل أمريكي نحو هرجيسا يثير غضب مقديشو، ويهدد بمزيد من التصعيد في المشهد الداخلي الصومالي.
أرض الصومال في قلب المعادلة
أرض الصومال التي أعلنت استقلالها من طرف واحد عام 1991 تراقب عن قرب النقاشات الجارية في واشنطن. فبعض الأصوات الأمريكية ترى فيها شريكًا أكثر استقرارًا وجديرًا بالثقة من الحكومة الفيدرالية الغارقة في الانقسامات.
وتسعى هرجيسا لاستثمار الموقع الجيوسياسي لميناء بربرة المطل على خليج عدن لجذب اهتمام واشنطن، التي تبحث عن بدائل استراتيجية لقاعدتها في جيبوتي حيث النفوذ الصيني المتنامي.
لكن أي خطوة أمريكية نحو الاعتراف الرسمي بأرض الصومال قد تُفجّر مواجهة دبلوماسية مع مقديشو وتثير حفيظة دول إقليمية تخشى من تداعيات الانفصال على مناطقها المتوترة.
الدعم الأمريكي بين الأمن والسياسة

رغم المليارات التي ضختها واشنطن في تدريب القوات الصومالية وتقديم الدعم الجوي والاستخباراتي، فإن نتائج هذه الجهود ظلت محدودة. فالحكومة الصومالية لم تنجح بعد في بسط سلطتها خارج مقديشو والمراكز العسكرية الكبرى، بينما ما تزال حركة الشباب قادرة على شن هجمات متكررة واستعادة مناطق فقدتها سابقًا.
ومع كل أزمة سياسية داخلية، تتراجع أولويات الإصلاح الأمني، لتبقى الولايات المتحدة أكثر التزامًا بمكافحة الإرهاب من الصوماليين أنفسهم. وهو ما يخلق فجوة في الرؤية بين الطرفين، ويجعل الوجود العسكري الأمريكي في الصومال بمثابة ورقة ضغط أكثر منه شراكة متوازنة.
تحركات استباقية من مقديشو

استشعرت الحكومة الصومالية مؤخرًا خطر فتور الاهتمام الأمريكي. ففي نهاية 2024، استعانت مقديشو بشركات ضغط للتأثير في مراكز القرار في واشنطن، وسرّبت رسالة من الرئيس حسن شيخ محمود إلى ترامب يعرض فيها “الشراكة الاستراتيجية” مقابل استمرار الوجود العسكري.
لكن المفارقة أن الرسالة تحدثت عن موانئ مثل بربرة وبوصاصو وهما خارج السيطرة المباشرة للحكومة – ما يعكس هشاشة الموقف الصومالي في التفاوض حول السيادة والأمن الوطني.
تعرف المزيد: الغارات الأميركية في الصومال: هجوم واسع على معاقل داعش في نهر بلعدة
الوجود العسكري الأمريكي في الصومال.. مستقبل غامض وخيارات محدودة
الخيارات المتاحة أمام واشنطن محدودة، وكذلك أمام الصومال. فالانسحاب المفاجئ قد يشجع حركة الشباب على التمدد، والبقاء دون إصلاح سياسي يعني استمرار الأزمة دون حلول.
الحل الوسط، كما يرى مراقبون، هو أن تستخدم الولايات المتحدة نفوذها لدفع الأطراف الصومالية نحو حوار وطني حقيقي، يُنهي الانقسام بين مقديشو والولايات ويعيد الثقة في المؤسسات.
من دون ذلك، سيظل الوجود العسكري الأمريكي في الصومال جزءًا من المشكلة بقدر ما هو جزء من الحل، وسيبقى الاستقرار رهينة لتوازن هش بين الدعم الخارجي والضعف الداخلي.
