في قلب مقديشو، حيث كانت الشوارع صامتة لعقود بفعل الحرب، بدأت المقاهي تعود تدريجيًا لتستعيد نبض المدينة. أزيز آلة الإسبريسو، ورائحة حبوب البن المحمصة التي تنتشر في الهواء، أصبح جزءًا من صباحات العاصمة مرة أخرى. القهوة الصومالية ليست مجرد مشروب؛ إنها رمز للضيافة والذاكرة الشعبية، ومكان يلتقي فيه الشعراء والتجار والسياسيون لتبادل الحديث والأفكار.
قبل الحرب، كانت المقاهي في مقديشو أماكن حيوية للتجمع الاجتماعي، حيث كان الناس يجلسون لساعات، يروون القصص، ويشربون الشاه أو القهوة التقليدية. مع عودة الأمن، بدأت هذه الأماكن تلعب دورها الاجتماعي مرة أخرى، بروح جديدة تجمع بين التقاليد والابتكار العصري. محمد علي نور “أميركو”، السفير الصومالي السابق لدى كينيا، يقول: “المقاهي ليست مجرد مؤسسات تجارية. إنها جزء من الهوية الصومالية، ومن المهم أن نراها تزدهر مرة أخرى.”
المقاهي كمحركات اقتصادية وريادة أعمال

لم تعد المقاهي مجرد أماكن للاجتماع، بل تحولت إلى محركات لفرص العمل وريادة الأعمال. شركات مثل بيدان كوفي أسست لنموذج مبتكر يجمع بين التدريب، والابتكار، وتمكين المرأة. اليوم، يشكل النساء أكثر من 30% من فريق العمل، بما في ذلك المناصب القيادية. الشباب الصومالي يجد في هذه المقاهي فرصة لعرض أفكارهم، والانطلاق بمشاريعهم، وإيجاد مصدر دخل مستدام في بلد يعاني من معدلات بطالة مرتفعة.
الشتات الصومالي والقهوة كجسر للهوية

وللقهوة الصومالية أثر كبير على الشتات الصومالي في الخارج. في جوهانسبرغ، يدير إبراهيم محمد علي، المعروف بـ “العم إبراهيم”، مقهى يجمع العائلات الصومالية منذ أكثر من 15 عامًا. المقهى ليس مجرد مكان لشرب القهوة؛ بل هو جسر بين الشتات ووطنهم الأم. الصور المؤطرة والزخارف الصومالية على الجدران تذكّر الزوار بموطنهم، بينما يواصلون ممارسة الطقوس اليومية التي تربطهم بالثقافة. القهوة الصومالية في هذه المقاهي أكثر من مشروب؛ إنها رسالة أمل وصمود رغم صعوبات اللجوء والبعد الجغرافي.
المقاهي ومساحة للنقاش السياسي والثقافي

أصبحت المقاهي مساحة سياسية رمزية في مقديشو. بعد عقود من صمت الحرب، صارت المقاهي مكانًا للحوار والفكر، وكأنها برلمانات مصغرة. يجلس الشباب لمناقشة السياسة والأعمال، ويتبادلون الأفكار حول صومال جديد. بهذا الشكل، تتحول القهوة الصومالية إلى رمز للمقاومة الناعمة ضد ثقافة الحرب والقات، وأداة لتغيير المجتمع من خلال الحوار بدلاً من الصراع.
المزج بين التقليد والحداثة

القهوة الصومالية اليوم لا تقتصر على التراث فقط. مع دخول الموجة العصرية، ظهرت مشروبات جديدة مثل الإسبريسو، الكابتشينو، واللاتيه، إلى جانب القهوة المثلجة، لتلائم أذواق الشباب ومواكبة الثقافة العالمية للمقاهي. مهرجانات مثل “مهرجان مقديشو للقهوة” ساعدت على وضع الصومال على خريطة ثقافة الكافيه العالمية، مع إظهار قدرة القهوة الصومالية على المزج بين التقليد والحداثة.
القهوة الصومالية كرمز للهوية والتغيير
المقاهي في الصومال أصبحت مراكز متعددة الوظائف: اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، سياسية، وعالمية. الطلاب يتجمعون حول الكتب، رجال الأعمال يناقشون مشاريعهم، العائدون من الشتات يتواصلون مع شركائهم المحليين، والشيوخ يناقشون السياسة. كل كوب من القهوة الصومالية هنا يحمل أكثر من مجرد نكهة؛ إنه يحمل تاريخًا، ثقافة، وأملًا لمستقبل أفضل.
تعرف المزيد: المشاكل الاجتماعية في الصومال: 9 أزمات من العنف ضد النساء إلى أزمة السكن
في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية، يثبت المشهد الجديد للمقاهي أن القهوة الصومالية ليست مجرد مشروب، بل هي رمز للهوية الصومالية ومصدر للإبداع والابتكار. الشباب يجدون فيها فرصة للنجاح، والمغتربون يجدون فيها رابطًا بوطنهم، والمجتمع يجد فيها مساحة للحوار والمشاركة. في كل فنجان، تتجدد الروابط، ويُحيى جزء من ذاكرة الصومال وثقافته الغنية، بينما يتم بناء صومال جديد على أسس من الابتكار والتواصل الاجتماعي.