هل تنجح أوروبا في إعادة بناء استقلالها الصناعي بعيدًا عن الصين؟ سؤال يتصدر المشهد السياسي والاقتصادي في بروكسل، مع تصاعد الحمائية عالمياً واحتدام المنافسة التكنولوجية. فبعد سنوات من الانفتاح على العولمة، تجد أوروبا نفسها أمام تحدي إعادة ترتيب سلاسل التوريد وحماية صناعاتها الحيوية من الاعتماد المتزايد على الصين، دون أن تخسر قدرتها التنافسية أو ترهق شركاتها بالتكاليف.
تتجه المفوضية الأوروبية إلى خطة “صُنع في أوروبا” التي تهدف إلى رفع نسب المحتوى المحلي في الصناعات الاستراتيجية إلى حدود 70 بالمئة. ورغم أن الخطوة تحمل طابعاً دفاعياً، إلا أنها تعكس إدراكاً أوروبياً بأن الاعتماد على الصين أصبح مرتفعًا لدرجة تُعرض استقلال القارة الصناعي للخطر.
تحديات خطيرة أمام التحول الأوروبي

هل تنجح أوروبا في إعادة بناء استقلالها الصناعي بعيدًا عن الصين؟ يتوقف ذلك على قدرة الاتحاد الأوروبي على تجاوز جملة من العقبات البنيوية التي خلّفتها عقود من نقل المصانع والصناعات الثقيلة إلى آسيا. فقد أغلقت دول أوروبية عديدة مصانعها خلال العشرين عامًا الماضية بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة واليد العاملة والضرائب.
إعادة تلك الصناعات اليوم تتطلب مليارات اليوروهات وسنوات طويلة لبناء البنية التحتية، بالإضافة إلى نقص يواجهه الاتحاد في المعادن النادرة والمواد الأولية، وهي عناصر تسيطر الصين على جزء كبير من إنتاجها العالمي. كما أن الفجوة السعرية بين الإنتاج الآسيوي المنخفض التكلفة والإنتاج الأوروبي المرتفع تخلق تحديًا تنافسيًا صعبًا.
أوروبا بين الحماية والانفتاح
هل تنجح أوروبا في إعادة بناء استقلالها الصناعي بعيدًا عن الصين؟ يبدو أن الاتحاد يبحث عن توازن دقيق بين حماية الصناعة والانفتاح على الأسواق. فالتشريعات التي يناقشها الأوروبيون تستلهم النموذج الصيني نفسه، مثل “صنع في الصين 2025” و”المعايير الصينية 2035″، عبر فرض قواعد تشجع الشركات الأجنبية والمحلية على زيادة الإنتاج داخل القارة.
اللافت أن دولاً كانت متحفظة سابقاً مثل ألمانيا أصبحت تنظر بإيجابية أكبر إلى هذه السياسات، بعد أن بدأت صناعاتها –خصوصًا السيارات– تعاني منافسة شرسة من المنتجات الصينية الأرخص. ويبدو أن التحول الألماني قد يمهّد الطريق لإجماع أوروبي أوسع بشأن خطط الاكتفاء الصناعي النسبي.
الصناعات الأكثر تأثراً بالارتباط الصيني

هل تنجح أوروبا في إعادة بناء استقلالها الصناعي بعيدًا عن الصين؟ يعتمد الجواب على القطاعات الصناعية الأكثر حساسية. وتشمل أبرزها:
التقنيات النظيفة
مثل الألواح الشمسية والبطاريات، والتي تعتمد أوروبا بشكل كبير على الصين في تصنيعها وموادها الأولية.
الصناعة الدوائية
تعاني أوروبا من اعتماد شبه كامل على الصين وروسيا في المواد الخام، وهو ما كشفته أزمة كوفيد-19 وارتفعت حدته بعد حرب أوكرانيا.
قطاع النسيج
ازدهر سابقًا في دول مثل بلجيكا، لكنه تراجع نتيجة نقل الإنتاج إلى دول منخفضة التكلفة مثل فيتنام والمغرب والصين.
صناعة السيارات
تسعى فرنسا لفرض قواعد تلزم شركات تصنيع المركبات الكهربائية بأن تكون 75% من مكوناتها أوروبية، في محاولة لحماية الوظائف والصناعات التقليدية من المنافسة الصينية.
هل النموذج الفرنسي قادر على التأثير في الاتحاد؟

هل تنجح أوروبا في إعادة بناء استقلالها الصناعي بعيدًا عن الصين؟ تحاول فرنسا دفع الاتحاد نحو سياسات صارمة لحماية الصناعات، خصوصًا قطاع السيارات الذي يشهد تحولًا جذريًا نحو الكهرباء. وترى باريس أن غزو السيارات الصينية الرخيصة قد يؤدي إلى خسائر ضخمة في الوظائف الأوروبية ويضعف ثقة المواطن بسياسات التحول البيئي.
كما تعتمد فرنسا على حوافز موجهة للمنتجات الأوروبية في قطاع السيارات الكهربائية، بهدف خلق بيئة إنتاج محلية قادرة على الصمود أمام الإغراق الآسيوي.
مستقبل الارتباط الأوروبي بالصين
هل تنجح أوروبا في إعادة بناء استقلالها الصناعي بعيدًا عن الصين؟ المؤشرات الحالية تؤكد أن القارة تتجه نحو “فك ارتباط جزئي” وليس انسلاخاً كاملاً. فالصين شريك لا يمكن تجاوز دوره سريعاً، لكن الأزمة تكمن في مستوى الاعتماد غير المتوازن، خاصة في الصناعات الحيوية.
ولذلك، تسعى أوروبا إلى إعادة توزيع المخاطر عبر تنويع الشركاء، وتطوير الاقتصاد الدائري، وتعزيز التصنيع المحلي، دون إغلاق الباب أمام التجارة العالمية.
لمعرفة المزيد: الصومال على أعتاب نهضة جديدة
صورة خاتمة هل تنجح أوروبا في إعادة بناء استقلالها الصناعي بعيدًا عن الصين؟
هل تنجح أوروبا في إعادة بناء استقلالها الصناعي بعيدًا عن الصين؟ المسار طويل ومعقد، لكنه بدأ بالفعل. وستعتمد نتائجه على مدى قدرة الاتحاد الأوروبي على توظيف استثمارات ضخمة، والحفاظ على التوازن بين الحمائية والانفتاح، وابتكار نموذج صناعي جديد يضمن له الاستقلالية دون التضحية بالقدرة التنافسية.
