في خطوة وُصفت بأنها الأجرأ في تاريخ قطاع المشروبات بالقارة، أعلنت شركة كوكاكولا عن صفقة مالية ضخمة ستعيد تشكيل المشهد الصناعي في إفريقيا.
ففي إطار صفقة كوكاكولا أفريقيا، تبيع الشركة الأم حصة الأغلبية في “كوكاكولا للمشروبات أفريقيا” (CCBA) إلى شركة التعبئة السويسرية “كوكاكولا HBC” مقابل نحو 3.4 مليار دولار، مع تسجيل خسارة محاسبية تصل إلى مليار دولار أمريكي. لكن ما يبدو على الورق كخسارةٍ مالية، يُخفي وراءه تحوّلًا استراتيجيًا عميقًا قد يُعيد رسم مسار الاقتصاد الكيني في السنوات المقبلة.
صفقة بمليار دولار تعيد رسم خريطة المشروبات في القارة

تشير تفاصيل صفقة كوكاكولا أفريقيا إلى أن الشركة العملاقة تتجه نحو نموذج إدارة إقليمي يركّز على القارة الأفريقية كمحور نمو مستقبلي. هذه الخطوة لا تُعتبر مجرد عملية بيع لأصول، بل إعادة هيكلة استراتيجية تهدف إلى تعزيز القدرة التشغيلية والإنتاجية داخل الأسواق الناشئة.
في كينيا تحديدًا، حيث تُعد كوكاكولا أحد أكبر المستثمرين في قطاع المشروبات والتعبئة، يُتوقع أن تفتح هذه الصفقة الباب أمام استثمارات جديدة في المصانع والبنية التحتية وسلاسل التوريد المحلية.
ويقول محللون إن صفقة كوكاكولا أفريقيا قد تجعل كينيا مركزًا لوجستيًا إقليميًا يربط شرق ووسط إفريقيا، بما يتيح خلق وظائف جديدة وتحفيز الصناعات الداعمة، مثل التغليف والنقل والخدمات اللوجستية.
انعكاسات الصفقة على سلاسل الإنتاج وفرص العمل في كينيا

بالنسبة للمدن الكينية سريعة النمو مثل ناكورو، وإلدوريت، وكيسومو، تُعد صفقة كوكاكولا أفريقيا فرصة لتوسيع قاعدة التوظيف وتعزيز دور التصنيع المحلي. إذ من المتوقع أن تسهم السيطرة التشغيلية لشركة “كوكاكولا HBC” في خفض التكاليف وتحسين الكفاءة التشغيلية عبر استثمارات مباشرة في المورّدين الكينيين.
هذا التحول يعني أن نسبة أكبر من سلسلة القيمة – من إنتاج الزجاجات إلى التوزيع – ستحدث داخل البلاد، ما يخلق وظائف ويزيد من الدخل المحلي.
كما يتوقع خبراء أن تسهم صفقة كوكاكولا أفريقيا في دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، خصوصًا تجار التجزئة الذين يعتمدون على تدفق منتظم للمنتجات. استقرار سلاسل الإمداد يعني أسعارًا أكثر توازنًا، وتراجعًا في حالات النقص التي كانت تؤثر على السوق سابقًا.
كيف تنعكس صفقة كوكاكولا أفريقيا على السوق المحلية والمستهلك؟

لا يقتصر تأثير صفقة كوكاكولا أفريقيا على المصنعين والعمال فحسب، بل يمتد إلى المستهلكين الكينيين. فبفضل تحسين كفاءة الإنتاج وخفض تكاليف النقل والاستيراد، يمكن أن تشهد السوق المحلية استقرارًا في الأسعار وربما انخفاضًا تدريجيًا في تكاليف بعض المنتجات.
ويرى خبراء الاقتصاد أن هذا التحول قد يساعد في مواجهة التضخم، خاصة في بيئة تشهد ارتفاعًا في أسعار المواد الخام والطاقة. كما قد تُسهم الصفقة في تسريع التحول نحو التصنيع المستدام، إذ تخطط “كوكاكولا HBC” لاستثمار مبالغ كبيرة في التعبئة الصديقة للبيئة وسلاسل تبريد أكثر كفاءة.
وبينما تُظهر صفقة كوكاكولا أفريقيا وجهها الاقتصادي الواعد، يحذر محللون من مخاطر محتملة، أهمها ضرورة حماية المنافسة العادلة وضمان نقل المهارات التقنية إلى العمالة المحلية، حتى لا تتحول المكاسب الإقليمية إلى احتكار خارجي.
إفريقيا بين الإدارة الإقليمية ورهانات النمو طويل الأمد
تأتي صفقة كوكاكولا أفريقيا في سياق أوسع يشهد تحولًا بين الشركات متعددة الجنسيات نحو اللامركزية الإدارية والرهان على الأسواق الإقليمية.
كوكاكولا، التي تعمل في أكثر من 40 دولة أفريقية، تراهن الآن على أفريقيا كمستقبل للنمو والاستهلاك العالمي، مدفوعة بزيادة عدد السكان وارتفاع الدخل المتوسط. وتشير تقديرات “يورومونيتور” إلى أن الطلب على المشروبات في القارة قد يرتفع بنسبة 40% بحلول عام 2030، مما يجعل استثمار الشركة في القارة خطوة استباقية لتأمين موقعها في السوق.
في هذا السياق، تُعتبر صفقة كوكاكولا أفريقيا خطوة رمزية نحو انتقال القارة من كونها مجرد سوق استهلاكية إلى مركز إنتاجي حقيقي في سلاسل القيمة العالمية. أما بالنسبة لكينيا، فإنها تخرج من هذه الصفقة بموقع استراتيجي جديد، قادر على جذب الاستثمارات الإقليمية وتعزيز مكانتها كقلب نابض لاقتصاد شرق أفريقيا.
تعرف المزيد: الصين تعود إلى فول الصويا الأميركي: صفقة مؤقتة أم بداية لنهاية الحرب التجارية؟
عندما تراهن الشركات العملاقة على القارة
في نهاية المطاف، تُثبت صفقة كوكاكولا أفريقيا أن التحول الصناعي في القارة لم يعد مجرد شعار تنموي، بل واقع استثماري تدعمه قرارات كبرى من شركات عالمية.
فبينما تُسجّل كوكاكولا خسارة محاسبية بمليار دولار، فهي في الواقع تُعيد تموضعها داخل أفريقيا بثقة في مستقبلها. ومع تصاعد دور كينيا كمحور إنتاج وتوزيع إقليمي، يبدو أن هذه الصفقة قد تكون الشرارة التي تغيّر خريطة الاقتصاد الكيني وتعيد رسم دور القارة في النظام الاقتصادي العالمي.

