يعيش مشروع بناء الدولة الصومالية أصعب مراحله، إذ يواجه إقليم بونتلاند الشمالي صراعًا شرسًا مع اثنتين من أخطر الجماعات المتطرفة في العالم: تنظيم “داعش” المتمركز في الجبال الوعرة شرق البلاد، وحركة الشباب، الذراع الأكثر دموية وثراءً لتنظيم القاعدة، غربًا.
يمتد الطريق الحيوي الذي يربط عاصمة الإقليم، غاروي، بميناء بوساسو عبر مناطق متنازع عليها بين التنظيمين، ما يجعل السيطرة عليها أمرًا حاسمًا لاستقرار المنطقة.
نشأة داعش في بونتلاند: عقبة كبرى أمام مشروع بناء الدولة الصومالية
ظهر تنظيم داعش في الصومال عام 2015 بعد انشقاق عدد من قادة حركة الشباب، وتم الاعتراف به رسميًا كولاية تابعة للتنظيم الأم عام 2018.
استغل داعش الطبيعة الجغرافية الوعرة لبونتلاند، والتي توفر ممرات جبلية صعبة، ليجعل منها قاعدة مالية ولوجستية لعملياته، مستهدفًا تعطيل مشروع بناء الدولة الصومالية بفضل موقعها الاستراتيجي على تقاطع طرق التجارة بين المحيط الهندي وخليج عدن.
المنافسة مع حركة الشباب

رغم أن حركة الشباب أكبر وأكثر تسليحًا، إلا أن داعش في الصومال نجح في ترسيخ وجوده شمال شرق البلاد والتفوق في بعض المناطق، خاصة جبال كالمسكاد. يتنافس التنظيمان على الموارد والهيمنة، ويعتمد كلاهما على الابتزاز وجمع الأموال من الشركات والرواتب الحكومية، ما يشكل تهديدًا مباشرًا لمسار مشروع بناء الدولة الصومالية واستقراره.
عملية “هيلاك”: محاولة بونتلاند لاستعادة السيطرة
أطلقت قوات أمن بونتلاند بقيادة الرئيس سعيد عبد الله ديني، في أواخر 2024، عملية عسكرية كبرى تحت اسم “هيلاك” بهدف القضاء على داعش في جبال باري.
شارك في العملية أكثر من 4,000 جندي، إلى جانب إعادة هيكلة القيادة العسكرية وتشكيل وحدات استخبارات متقدمة، كما تم نشر فرق طبية ميدانية لدعم القوات.
ورغم النجاحات، تعاني بونتلاند من نقص في التمويل والتقنيات المتطورة، ما دفعها لطلب دعم دولي في مجال الذخيرة والاستطلاع الجوي والتمويل.
خريطة الصراع في بونتلاند
شهدت بونتلاند خلال الأشهر الأخيرة تصعيدًا عسكريًا واسعًا ضد تنظيم داعش، حيث أطلقت الحكومة المحلية سلسلة من العمليات العسكرية تحت اسم “عملية هيلاك”، بهدف استعادة السيطرة الكاملة على المناطق الجبلية الوعرة في منطقة باري. وبحسب السلطات، تمكّنت القوات من تحقيق مكاسب ميدانية كبيرة، أبرزها استعادة 98% من سلسلة جبال كال ميسكاد، التي كانت لسنوات معقلاً رئيسيًا للتنظيم، ما يعزز فرص نجاح مشروع بناء الدولة الصومالية.
في 15 يونيو/حزيران 2025، أعلن رئيس بونتلاند، سعيد عبد الله ديني، انطلاق المرحلة الرابعة من العملية تحت اسم “عملية أونكود”، والتي تركّز على القضاء على ما تبقى من الجيوب الصغيرة لخلايا داعش المختبئة في الجبال النائية. وأكد ديني أن قوات بونتلاند استعادت معظم الأراضي التي كانت خاضعة للتنظيم، مع استمرار عمليات التمشيط لتأمين المناطق المحررة ومنع عودة المسلحين إليها، باعتبار ذلك خطوة محورية في حماية مشروع بناء الدولة الصومالية.
تتزامن هذه العمليات مع تصاعد التوترات بين بونتلاند والحكومة الفيدرالية الصومالية، حيث تتبنى بونتلاند استراتيجية مستقلة في مكافحة الإرهاب، مدعومة بقدراتها العسكرية وقواتها الخاصة، إلى جانب التعاون المحدود مع القيادة الأمريكية في أفريقيا، وهو ما يثير تساؤلات حول ضرورة توحيد الجهود لإنجاح مشروع بناء الدولة الصومالية.
الملخص الزمني لعمليات بونتلاند ضد داعش
المرحلة الأولى – ديسمبر 2024
- انطلاق عملية هيلاك في 26 نوفمبر 2024 لاستهداف معاقل داعش في جبال كال ميسكاد.
- 31 ديسمبر: إحباط هجوم واسع لداعش على قاعدة دارجالي، ومقتل 12 مسلحًا.
المرحلة الثانية – يناير وفبراير 2025
- نشر 500 جندي من قوات النخبة، مع استخدام معدات متطورة للتشويش على الطائرات المسيّرة.
- 1 فبراير: غارات جوية أمريكية تستهدف كهوف داعش في جبال جوليس.
- 2 فبراير: مقتل 46 مقاتلًا من داعش.
- 3 فبراير: استسلام القائد عبد الرحمن شرواك.
- 10 فبراير: مقتل 13 مسلحًا أجنبيًا في منطقة داساك.
المرحلة الثالثة – مارس 2025
- إعلان المرحلة النهائية من حملة “هيلاك” لتطهير آخر الجيوب.
- عرض عفو مؤقت لمدة 7 أيام لمن يسلم نفسه من عناصر داعش.
المرحلة الرابعة – يونيو 2025
- 15 يونيو: إطلاق عملية أونكود للقضاء على بقايا داعش.
- استعادة 98% من سلسلة جبال كال ميسكاد وتأمين معظم المناطق.
احتمال المواجهة مع حركة الشباب

شهدت حركة الشباب الصومالية خلال عام 2024 تصاعدًا ملحوظًا في استهداف المدنيين عبر عمليات انتحارية وتفجيرات، في تكتيك يعكس تغيرًا في أسلوبها القتالي. فالهجمات الأخيرة تميزت بالتشابه في طريقة التنفيذ والتركيز على الأماكن العامة المزدحمة، مع توقعات بتوسيع نطاقها ليشمل المناطق الريفية التي تقطنها العشائر المتعاونة مع الحكومة الصومالية. ويكشف هذا التوجه عن مجموعة من الدلالات المهمة:
1- قصور الاستراتيجية الأمنية الدولية
أظهرت الهجمات المتكررة ضعف الاستراتيجية الأمنية للأطراف الدولية المعنية بحفظ السلام في الصومال، إذ انحصر تركيزها على حماية القواعد البحرية وتدريب القوات الصومالية، مع إهمال المواجهة المباشرة لعناصر الحركة داخل المدن والريف. وقد أدى ذلك إلى استعادة الحركة بعض مناطق نفوذها السابقة، واختراق مؤسسات حكومية في المناطق المحررة، بينما تراجعت قدرة قوات الأمن نتيجة الأزمات المالية التي أثرت على رواتبها.
2- تحول فكري وتكتيكي
انتقلت الحركة من استهداف القوات العسكرية والأمنية بشكل رئيسي إلى تكثيف الهجمات ضد المدنيين، مبررة ذلك بخطاب تكفيري يحمّل المواطنين مسؤولية سياسات حكومتهم، وهو نهج سبق أن تبنته القاعدة في دول عدة.
3- ضعف قسم الدعوة والتجنيد
تراجع أداء قيادة “قسم الدعوة” بالحركة وفقدانها لآليات التجنيد التقليدية، خصوصًا بعد انهيار علاقاتها مع بعض العشائر، أجبرها على استقطاب عناصر جديدة غير منضبطة، ما أدى إلى تنفيذ عمليات انتقامية غير مدروسة تستهدف المدنيين.
دوافع التصعيد ضد المدنيين
- الانتقام وبث الرعب: تسعى الحركة إلى الانتقام من المدنيين المتعاونين مع القوات الحكومية وإرسال رسائل تهدف إلى إضعاف معنويات الجيش والشرطة.
- تفكيك العلاقة مع العشائر: استهداف التجمعات العامة محاولة للضغط على العشائر وإجبارها على وقف دعمها للقوات الحكومية.
- إظهار التماسك الداخلي: عبر تكثيف الهجمات على المدنيين، تحاول الحركة تعزيز ثقة مقاتليها وجذب مجندين جدد.
- دوافع عقائدية: تستند الحركة إلى فتاوى متطرفة تبرر تكفير المدنيين المتعاونين مع الحكومة، وهو نهج متوارث من فكر القاعدة.
دور القوات الدولية (أمريكا والإمارات)

تزايدت مشاركة القوات الدولية، خاصة الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة، في دعم عمليات مكافحة الإرهاب في الصومال، ولا سيما في إقليم بونتلاند. فقد أكدت قوات أمن بونتلاند أن غارة جوية نفذتها الإمارات في منطقة ميرعلي المسقد أسفرت عن مقتل 25 عنصرًا من تنظيم داعش كانوا يعيدون تنظيم صفوفهم، مشيرة إلى أن هذه العملية تأتي في إطار الشراكة الأمنية لمكافحة الإرهاب ودعم مشروع بناء الدولة الصومالية.
الغارات الأمريكية في عهد ترامب
نفذ الجيش الأميركي، لأول مرة خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب الثانية، غارات جوية ضد عناصر داعش في جبال غوليس بمنطقة بونتلاند. وأوضح ترامب أن هذه الضربات استهدفت أحد كبار مخططي هجمات داعش وآخرين من قادة التنظيم، مؤكدًا تدمير الكهوف التي كانوا يختبئون فيها وقتل عدد كبير من المسلحين دون وقوع إصابات بين المدنيين.
وفي منشور على منصة “تروث سوشيال”، صرح ترامب:
لقد استهدف جيشنا مخططي هجمات داعش لسنوات، لكن الإدارات السابقة لم تتحرك بسرعة كافية لإنجاز المهمة. رسالتنا للإرهابيين واضحة: سنجدكم وسنقضي عليكم.
وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث أكد بدوره مقتل عدد من عناصر التنظيم، مشيرًا إلى أن هذه الضربة رسالة حاسمة على استعداد واشنطن لملاحقة التهديدات الإرهابية أينما كانت.
الموقف الدولي والصومالي
أشادت النائبة الأمريكية الصومالية الأصل إلهان عمر بالضربة، متمنية القضاء على داعش وحركة الشباب وإنهاء معاناة الشعب الصومالي مع الإرهاب. كما شكر مسؤولو بونتلاند كلًّا من الولايات المتحدة والإمارات على دعمهما المستمر.
من جانبه، أعرب مكتب الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود عن تقديره للدعم الأميركي، مؤكدًا أهمية استمرار التنسيق العسكري مع إدارة ترامب. وجاء ذلك بعد أن ناشد الرئيس الصومالي، في مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست، عدم سحب المستشارين والخبراء الأمريكيين الذين يساهمون في تدريب القوات الخاصة الصومالية.
استهداف قيادات داعش
أشارت تقارير إعلامية إلى أن الضربات الأمريكية الأخيرة ربما استهدفت عبد القادر مؤمن، القيادي البارز الذي يُعتقد أنه تولى قيادة داعش على مستوى عالمي. غير أن خبراء أمنيين أبدوا تحفظاتهم حول صحة هذه التقديرات.
مشاركة بونتلاند في الحملة
إلى جانب الدعم الدولي، واصلت قوات بونتلاند عملياتها الميدانية، حيث تمكنت من تطهير أكثر من 200 كيلومتر من الأراضي في أعقاب الهجمات الإرهابية الأخيرة، وسط صراع منخفض الشدة مع التنظيمات المتطرفة استمر لقرابة عقد.
التحديات والفرص التي تواجة مشروع بناء الدولة الصومالية
تركّز الاستراتيجية العسكرية لبونتلاند على الجمع بين الهجوم والدفاع، مع الحفاظ على معنويات الجنود وتجنب استنزاف الموارد. كما تسعى لتعزيز التماسك الاجتماعي في المناطق المحررة، وتنسيق الجهود الإنسانية لمعالجة آثار النزاع.
نجاح العملية يعدّ حاسمًا لاستقرار القرن الأفريقي، فيما يشكل الفشل تهديدًا أمنيًا إقليميًا ودوليًا.
توصيات أساسية
- توحيد جهود بونتلاند والحكومة الفيدرالية ضد الإرهاب باعتباره خطوة حاسمة لإنقاذ مشروع بناء الدولة الصومالية.
- تعزيز الدعم الدولي في مجالات التمويل والاستخبارات والقدرات الجوية لضمان استمرار مشروع بناء الدولة الصومالية.
- تحسين البنية التحتية والخدمات العامة لكسب ثقة المجتمعات المحلية ودعم مسار مشروع بناء الدولة الصومالية.
- مواجهة الفكر المتطرف ببرامج توعية وتأهيل للمنشقين، بهدف حماية المكتسبات الأمنية والسياسية المرتبطة بـ مشروع بناء الدولة الصومالية.
تبدو بونتلاند اليوم وكأنها تخوض سباقًا مع الزمن؛ فالمعارك ضد داعش وحركة الشباب ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل اختبار حقيقي لقدرة مشروع بناء الدولة الصومالية على الصمود وسط الفوضى. نجاح العمليات الجارية يعني تعزيز الأمن في القرن الأفريقي بأكمله، أما الفشل فقد يفتح الباب أمام موجة جديدة من العنف والفوضى تمتد إلى ما وراء حدود الصومال.
تعرف المزيد: الغارات الأمريكية في الصومال 2025: شراكة أمنية أم تصعيد إقليمي؟
يبقى السؤال الأهم:
هل يملك الإقليم والحكومة الفيدرالية، بدعم الحلفاء الدوليين، ما يكفي من الإرادة والإمكانات لإنقاذ مشروع بناء الدولة الصومالية والقضاء على الإرهاب، أم أن بونتلاند ستظل ساحة مفتوحة لصراع الجماعات المسلحة؟