منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، لا يزال الدولار الأميركي يتربع على عرش العملات الدولية ويُستخدم في معظم المبادلات التجارية والمالية. ورغم ظهور منافسين محتملين مثل اليورو واليوان الصيني وحتى الذهب والعملات المشفرة، فإن هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي لا تزال راسخة بفضل عوامل تاريخية واقتصادية وسياسية يصعب تكرارها.
في هذا التقرير، نستعرض أسباب قوة الدولار، كيف استفادت الولايات المتحدة من هذا الوضع، ما التهديدات التي قد تواجهه في المستقبل، وأين تقف البدائل المحتملة.
قوة الدولار بين الحجم الاقتصادي والسيولة المالية

لا يمكن الحديث عن هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي من دون التطرق إلى حجم الاقتصاد الأميركي نفسه. فالولايات المتحدة ما زالت صاحبة الاقتصاد الأكبر في العالم، بإجمالي ناتج يفوق 27 تريليون دولار، أي ما يعادل تقريبًا اقتصادات الصين واليابان وألمانيا مجتمعة.
إضافة إلى ذلك، تملك الولايات المتحدة أسواق رأس المال الأكثر سيولة وعمقًا، وهو ما يجعل الشركات والحكومات والمستثمرين يتجهون إليها للحصول على التمويل. وحدها سوق سندات الخزانة الأميركية بلغت قيمتها نحو 27 تريليون دولار، ما يجعلها أكبر سوق دين في العالم وأكثرها أمانًا. هذه الوفرة الهائلة من الأصول المقومة بالدولار تعزز من استقراره وتجعل الناس يعتبرونه الملاذ المالي الأول في أوقات الأزمات.
الدولار كعملة احتياط عالمية

اليوم، يُقدر أن أكثر من 58% من احتياطيات البنوك المركزية حول العالم محتفظ بها بالدولار. وهذا يضعه على رأس قائمة عملات الاحتياط بفارق كبير عن اليورو والين واليوان. ومعظم الدول سواء كانت صديقة أو حتى خصمًا سياسيًا لواشنطن تلجأ إلى الاحتفاظ بالدولار ضمن احتياطاتها لحماية عملاتها المحلية.
كما أن نحو 70% من الديون المقومة بالعملات الأجنبية حول العالم مُصدرة بالدولار. وهذا يعني أن الدول النامية والمتقدمة على السواء تعتمد بشكل مباشر على هذه العملة، ما يعزز هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي ويجعل الخروج من دائرته أمرًا بالغ الصعوبة.
الاستقرار السياسي والمؤسساتي في الولايات المتحدة
ما يجذب المستثمرين أكثر هو أن الدولار ليس مجرد عملة قوية بحكم الاقتصاد الأميركي، بل أيضًا لأنه مدعوم بمؤسسات مستقرة وقوانين راسخة. مجلس الاحتياطي الفيدرالي يُعد من أكثر البنوك المركزية استقلالية مقارنة بنظرائه في دول أخرى. كما أن الولايات المتحدة لم تتخلف في تاريخها عن سداد ديونها، ولم تشهد تضخمًا مفرطًا كالذي أصاب اقتصادات أخرى.
هذه السمعة تعني أن أي مستثمر سواء كان صندوقًا سياديًا أو بنكًا مركزيًا أو شركة خاصة يرى في الدولار الخيار الأكثر أمانًا للحفاظ على قيمة أمواله، وهو ما يرسخ مرة أخرى هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي.

الدولار كسلاح سياسي
لا تقتصر قوة الدولار على الجانب الاقتصادي فقط، بل تمتد إلى السياسة الدولية. إذ استغلت الولايات المتحدة وضعها المهيمن لعزل دول مثل إيران وكوريا الشمالية وروسيا عن النظام المالي العالمي عبر العقوبات.
بعد غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022 مثلًا، قطعت واشنطن والاتحاد الأوروبي وصول عدة بنوك روسية إلى نظام “سويفت”، كما جمدت أصول البنك المركزي الروسي بالدولار. هذه الإجراءات أظهرت أن هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي تمنح أميركا سلاحًا استراتيجيًا قد يكون أشد فاعلية من الجيوش في بعض الأحيان.
الأزمات تثبت متانة الدولار

المثير أن الدولار لا يضعف حتى عندما تدخل الولايات المتحدة نفسها في أزمة. ففي أزمة 2008 المالية العالمية، ارتفع الدولار بأكثر من 26% أمام سلة من العملات العالمية، لأن المستثمرين اندفعوا لشرائه كملاذ آمن. وهذا السلوك يعكس أن الثقة بالدولار عابرة للحدود ولا ترتبط فقط بالوضع الاقتصادي الأميركي الداخلي.
التحديات التي قد تهدد هيمنة الدولار
رغم كل هذه القوة، إلا أن هناك عوامل قد تضعف في المستقبل هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، وأبرزها:
- الديون الأميركية المتصاعدة: الدين العام الأميركي تجاوز 34 تريليون دولار، وهو أعلى من حجم الاقتصاد نفسه. أي خلل في إدارة هذا الدين قد يثير مخاوف بشأن استدامة الوضع.
- الخلافات السياسية الداخلية: الصراعات المتكررة حول “سقف الدين” تهدد أحيانًا بوقف تمويل الحكومة، ما يقلل من ثقة الأسواق.
- الإفراط في استخدام الدولار كسلاح سياسي: إذا بالغت واشنطن في فرض العقوبات، قد تبحث الدول عن بدائل لتقليل اعتمادها على النظام المالي الأميركي.
البدائل المحتملة: هل يمكن إزاحة الدولار؟

اليورو
اليورو هو المنافس الأقرب من حيث حجم التداول والاحتياطيات. لكن عمره القصير (أقل من 25 سنة) والأزمات المالية التي هزت منطقة اليورو مثل أزمة الديون اليونانية تجعله أقل استقرارًا.
اليوان الصيني
الصين تمتلك ثاني أكبر اقتصاد عالمي، وتسعى بقوة إلى تعزيز مكانة عملتها. ورغم ذلك، تظل أسواقها المالية أقل عمقًا من نظيرتها الأميركية، كما أن الضوابط الحكومية على حركة الأموال تقلل من ثقة المستثمرين العالميين.
الذهب والعملات الرقمية
الذهب يُعتبر مخزنًا للقيمة لكنه غير عملي في التجارة اليومية. أما العملات المشفرة مثل “بتكوين”، فهي تفتقر للاستقرار والسيولة اللازمة كي تصبح بديلًا حقيقيًا.
لذلك، وحتى الآن، لا يبدو أن أيًا من هذه البدائل قادر على زعزعة هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي في المستقبل القريب.
الفوائد التي تجنيها أميركا من وضع الدولار
من أبرز فوائد هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي أن الحكومة الأميركية تستطيع تمويل ديونها الهائلة بأسعار فائدة منخفضة. كما أن المستهلك الأميركي يتمتع بامتيازات مثل قروض أرخص ورهون عقارية أقل كلفة.
وبما أن الدولار هو مركز النظام المالي، فإن الولايات المتحدة أقل عرضة للتأثر بالاضطرابات التي تضرب الأسواق العالمية، بينما تجد بقية الدول نفسها مضطرة للتكيف مع قرارات الاحتياطي الفيدرالي حتى وإن لم تتناسب مع ظروفها المحلية.
تعرف المزيد: قمة الإمارات وأفريقيا للاستثمار السياحي: منصة استراتيجية لتعزيز الشراكات بين القارتين في 2025

المستقبل: هل تظل هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي؟
رغم تصاعد الدعوات في أوساط بعض القوى الصاعدة مثل مجموعة “بريكس” للابتعاد عن الدولار، فإن غياب البديل الجاهز يجعل تلك الجهود رمزية أكثر منها عملية.
قد تتعرض هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي لبعض الاهتزازات بسبب الانقسامات السياسية في واشنطن أو الإفراط في استخدام العقوبات، لكن التاريخ يوضح أن تغيير العملة المهيمنة عالميًا يستغرق عقودًا طويلة ويتطلب تحولات جذرية في موازين القوى.
في الوقت الراهن، ورغم كل التحديات، يبدو أن الدولار سيظل الملك المتربع على عرش النظام المالي العالمي، تمامًا كما فعل الجنيه الإسترليني من قبل لعقود طويلة، قبل أن يحل محله الدولار بعد حربين عالميتين.