لماذا تتراجع الهجرة العمالية عالميا رغم عطش الاقتصاد للمهارات؟ سؤال يفرض نفسه بقوة في وقت تعاني فيه الاقتصادات الغنية من شيخوخة السكان ونقص حاد في الأيدي العاملة، بينما تُغلق الأبواب السياسية أمام المهاجرين. فبحسب أحدث تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، انخفضت الهجرة المرتبطة بالعمل إلى الدول الغنية بأكثر من 20% خلال عام 2024، في مفارقة تعكس تصادم الحاجة الاقتصادية مع الحسابات السياسية.
أرقام صادمة بعد سنوات من النمو

تشير بيانات المنظمة إلى أن عدد المقبولين للعمل الدائم في دولها الأعضاء تراجع إلى نحو 934 ألف شخص فقط، بعد سنوات من التعافي والنمو عقب جائحة كورونا. ويؤكد التقرير أن هذا التراجع حدث حتى قبل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ما يعني أن الظاهرة أعمق من حدث سياسي واحد. وهنا يعود السؤال مجددًا: لماذا تتراجع الهجرة العمالية عالميا رغم عطش الاقتصاد للمهارات؟
الاقتصاد العالمي في حالة تباطؤ
يرى خبراء المنظمة أن أحد الأسباب الرئيسية هو تراجع الزخم الاقتصادي العالمي. فقد خفّض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو لعام 2025، في ظل تصاعد التوترات التجارية والحروب الاقتصادية. ضعف النمو يعني فرص عمل أقل، وبالتالي طلبًا أضعف على العمالة الأجنبية، حتى في الدول التي كانت تاريخيًا منفتحة على الهجرة.
تشديد التأشيرات القرارات السياسية الحاسمة
إلى جانب الاقتصاد، لعبت السياسة الدور الأبرز. بريطانيا، كندا، أستراليا ونيوزيلندا شددت شروط التأشيرات، وقيّدت لمّ شمل الأسر، ورفعت متطلبات الرواتب. هذه الإجراءات أدت إلى انخفاض حاد في أعداد المتقدمين، خاصة في قطاعات حيوية مثل الصحة والرعاية. وهنا يتكرر التساؤل: لماذا تتراجع الهجرة العمالية عالميا رغم عطش الاقتصاد للمهارات؟ والإجابة تكمن في صعود الخطاب الشعبوي المعادي للهجرة.
الولايات المتحدة وأوروبا قيود رغم الحاجة

في الولايات المتحدة، فُرضت قيود صارمة على تأشيرات “H-1B” للمهن المتخصصة، مع رفع كبير في التكاليف على أصحاب العمل. أما في أوروبا، فرغم أن المهاجرين شغلوا ثلثي الوظائف الجديدة بين 2019 و2023، فإن عدة دول شهدت تراجعًا ملحوظًا في الهجرة العمالية. ألمانيا مثلًا سجلت انخفاضًا بنسبة 12%، ما يهدد استقرار سوق العمل فيها. مرة أخرى يبرز العنوان: لماذا تتراجع الهجرة العمالية عالميا رغم عطش الاقتصاد للمهارات؟
اللاجئون والحماية المؤقتة
ساهم عامل آخر في خفض الطلب على العمالة الأجنبية، وهو حصول ملايين الأوكرانيين على حماية مؤقتة في أوروبا، ما سدّ فجوات في قطاعات عديدة. وجود هؤلاء خفف الضغط مؤقتًا، لكنه لا يعالج المشكلة الهيكلية طويلة الأمد المرتبطة بتقاعد الملايين من العمال المحليين.
الهجرة المؤقتة بدل الدائمة

تكشف بيانات المنظمة عن اتجاه واضح لدى الحكومات: تفضيل العمالة المؤقتة على الإقامة الدائمة. برامج العمل الموسمية في الزراعة والبناء والرعاية ما تزال مستقرة، بينما تتراجع مسارات الاستقرار الطويل. هذا التوجه يسمح للدول “باستعارة” العمال عند الحاجة فقط. وهنا تتكرر الإشكالية: لماذا تتراجع الهجرة العمالية عالميا رغم عطش الاقتصاد للمهارات؟
البيروقراطية عائق خفي
حتى عندما يُسمح للمهاجرين بالدخول، تعيقهم البيروقراطية. بطء الاعتراف بالشهادات والمؤهلات يدفع كثيرين للعمل في وظائف أدنى من مستواهم. وتشير تقديرات ألمانية إلى نقص يقارب 3 ملايين عامل، رغم وجود مهاجرين قادرين على سد هذه الفجوة لو أُدمجوا بشكل أفضل.
لمعرفة المزيد: أطماع تركيا في الصومال الاقتصادية، استثمارات واحتكار نفوذ
المستقبل: حاجة اقتصادية مقابل إرادة سياسية

تتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تراجعًا طفيفًا إضافيًا في الهجرة عام 2025، لكنه سيبقى عند مستويات مرتفعة تاريخيًا. ومع ذلك، يبقى التحدي قائمًا: كيف يمكن التوفيق بين الضرورة الاقتصادية والرفض السياسي؟
في النهاية، سيظل السؤال يتردد في النقاشات العالمية: لماذا تتراجع الهجرة العمالية عالميا رغم عطش الاقتصاد للمهارات؟ والجواب الأقرب هو أن السياسة، لا الاقتصاد، هي من تمسك بزمام القرار.
