في أحد أزقة لندن الهادئة، ووسط زحام ثقافات العالم، ينبض بيت الثقافة الصومالية في لندن كقلبٍ صغير يحتفظ بذاكرة وطن بعيد. ما إن تعبر بوابته المقوسة حتى تشعر بأنك تدخل مساحة تحكي قصة جيلٍ حمل تراثه في حقائب السفر ورفض أن يتركه يضيع.
بعد خمسة عشر عامًا من الجهد والتبرعات والمقتنيات المنزلية، أصبح الحلم حقيقة: أول مساحة دائمة مخصصة بالكامل للتراث الصومالي في المملكة المتحدة. هذا المكان لم يُبنَ فقط ليعرض مقتنيات الماضي، بل ليحافظ على روح الحاضر ويمنح الجالية الصومالية في بريطانيا صوتًا وذاكرةً مشتركة تعيد تعريف الثقافة الصومالية في لندن.
من حلم المهاجرين إلى دارٍ تحفظ الذاكرة

بدأت الفكرة من مبادرة صغيرة قادتها “حركة مناهضة القبلية” ATM، وهي منظمة غير ربحية تعمل منذ سنوات على توثيق القصص الصومالية في المهجر. جمعت الحركة المقتنيات من بيوت الناس أمشاط منحوتة، مباخر، أجراس جمال، ومساند خشبية كانت محفوظة داخل صناديق وحقائب سفر لسنوات طويلة.
تتذكر انتصار يوسف، مديرة العمليات، قائلة: “كانت القطع الأثرية مجرد أكوام في منازل الناس. شعرنا أننا إن لم نحافظ عليها الآن، فسنفقد جزءًا من ذاكرتنا الجماعية.”
ومنذ تلك اللحظة، بدأت رحلة التحول من فكرة عائلية إلى متحف حي يمثل الثقافة الصومالية في لندن، يعرض القصص بعيون أصحابها لا بعدسات الآخرين.
في عام 2016، أقيم معرض تجريبي صغير ضمن “جوائز الصومال الدولية”، وكانت المفاجأة في تفاعل الناس. يقول نائب المدير عبد الرشيد فيدو: “تأثر الزوار حين رأوا ملعقة أو صورة قديمة تذكّرهم ببيت أمهاتهم في مقديشو. حينها أدركنا أننا لا نحفظ أشياء، بل نحفظ ذاكرة وطن كامل.”
العمارة الصومالية في قلب لندن

يقع بيت الثقافة الصومالية في لندن في مبنى قديم كان مركزًا للإطفاء ثم وحدة تخزين. أعيد تصميمه بالتعاون مع استوديو “فريهاوس” المعماري، الذي دمج بين روح الصومال وحداثة العاصمة البريطانية.
يتميز المكان بتفاصيل مستوحاة من العمارة الصومالية التقليدية: فتحات تهوية هندسية أنيقة، وأغطية مصابيح منسوجة يدويًا تشبه السلال الموجودة في بيوت القرن الأفريقي.
تقول انتصار يوسف: “أردنا أن يشعر الزائر وكأنه يعود إلى وطنه. أن يرى في الزوايا والألوان ما يذكّره بطفولته وأهله.”
بهذا الشكل، لم يعد المتحف مجرد قاعة عرض، بل فضاء معماري يجسد الثقافة الصومالية في لندن بصريًا وجماليًا.
من ماما آشا إلى الأجيال الجديدة: ذاكرة لا تموت

من أبرز القصص التي تُروى بين جدران المتحف قصة “ماما آشا”، السيدة الصومالية المعروفة في المجتمع المحلي، والتي تبرعت بعدد من القطع الأثرية الثمينة. تقول عن تجربتها: “لم أتخيل يومًا أن أرى قطعة صومالية في لندن. كنت أخشى أن تختفي من ذاكرتنا، لكن رؤية هذا المكان أعادت لي الأمل.”
قصة ماما آشا تمثل روح المشروع: مقاومة النسيان.
اليوم، صار المتحف أيضًا مساحة تربوية للأجيال الجديدة من الصوماليين البريطانيين، الذين وُلدوا بعيدًا عن أرض أجدادهم. تحكي انتصار عن أم جاءت مع أطفالها مرتدين الزي الصومالي التقليدي لتزور المعرض: “قالت لي إنهم لا يعرفون كل الكلمات الصومالية، لكنهم اليوم يتعلمونها معنا.”
وهكذا تتحول الثقافة الصومالية في لندن من تراث معروض إلى تجربة تعليمية حية تعبر الأجيال.
الفن جسرٌ بين الأجيال

تحولت الثقافة الصومالية في لندن من مجرد مقتنيات تاريخية إلى منصة للفنانين والمبدعين الصوماليين البريطانيين.
من بين الأسماء التي شاركت في أول معرض مؤقت الفنانة نجمة علمي، التي عرضت أعمالها المستوحاة من الإسلام والسفر والهوية تحت عنوان “آيات الله”.
تقول نجمة: “كان عرض أعمالي في مكان يرتاده الصوماليون من كل الأعمار تجربة مميزة. كانت المرة الأولى التي يحضر فيها أعمامي وخالاتي معرضًا فنيًا ويشعرون أن الفن يتحدث بلغتهم.”
كما يعمل القائمون على المتحف على بناء شراكات مع مؤسسات بريطانية كبرى، منها المتحف البريطاني ومتحف بول كوتون، بهدف تصحيح السرد التاريخي حول المقتنيات الصومالية التي خرجت خلال الحقبة الاستعمارية.
يقول فيدو: “نريد أن نحكي قصتنا بأنفسنا، لا أن تُروى بالنيابة عنا. هذا ما تمثله الثقافة الصومالية في لندن اليوم: استعادة للهوية وسيادة على الذاكرة.”
بيتٌ مفتوح للجميع

لم يتوقف دور بيت الثقافة الصومالية في لندن عند عرض المقتنيات فقط، بل أصبح مركزًا مجتمعيًا حيًا يحتضن ورشًا شعرية ولقاءات أدبية ومحاضرات حول التاريخ والفن. ويستعد البيت للمشاركة في مهرجان “البيت المفتوح” في لندن، الذي يتيح للجمهور استكشاف العمارة والمساحات الثقافية في المدينة.
تقول مسؤولة التعليم عبير علي: “الطلب متزايد لدرجة أننا نحتاج لمساحة أكبر، وهذه أفضل مشكلة يمكن أن نواجهها.”
لمعرفة المزيد: سباق زايد الخيري: 5 ميداليات إماراتية تضيء سماء البرازيل
بيت الثقافة الصومالية في لندن.. من حقائب السفر إلى بيت الهوية
في نهاية الجولة داخل بيت الثقافة الصومالية في لندن، لا يرى الزائر مقتنيات جامدة، بل يسمع صدى القصص التي عبرت البحر لتصل إلى لندن.
هنا، تتحول الأواني القديمة والمباخر والصور العائلية إلى شهادة على ذاكرة وطنٍ قاوم النسيان.
فمن حقائب السفر التي حملت التراث، إلى دارٍ تحفظ الأمل، تتجلى الثقافة الصومالية في لندن كجسر بين الماضي والمستقبل، وكوطنٍ بديلٍ للهوية التي لم تُمحَ من القلوب.