في خضم الأزمات المتكررة التي تواجه الصومال، تبرز المرأة الصومالية كعنصر فاعل في الاقتصاد المحلي، لا سيما في ظل ضعف الاستثمارات الخارجية وتراجع الفرص المتاحة. رغم أن النساء يشكلن أكثر من نصف المجتمع الصومالي، إلا أن وجودهم في مجال التعليم والاقتصاد لا يزال مقيد بمجموعة من العوائق البنيوية والثقافية.
المرأة الصومالية في قلب الأزمات المتعددة
رغم أن المرأة الصومالية كانت ولا تزال عماد الأسرة وحجر الأساس في المجتمعات المحلية، إلا أن دورها في الاقتصاد الوطني يواجه عوائق متجذرة تُهدد جهود البلاد في التعافي وإعادة الإعمار. ففي ظل هشاشة الأوضاع الأمنية وضعف البنية المؤسسية، تجد النساء أنفسهن في قلب الأزمات، يتحملن تبعات النزوح، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، وانعدام الحماية.
ثقافة تقييد الفرص
وتُفاقم العوائق الاجتماعية والثقافية من هذا الواقع، حيث تُكرَس أدوار تقليدية تُبعد النساء من المشاركة الفعّالة في سوق العمل وريادة الأعمال والحصول على التمويل. وبينما تشكّل النساء أكثر من نصف سكان الصومال، إلا أن تمثيلهن في صنع القرار لا يزال محدودًا، ما يرسخ من وجود فجوة عميقة في فرص النمو الاقتصادي والاجتماعي.
مؤشرات الفقر والتمييز

تشير بيانات عام 2023 الصادرة عن المكتب الوطني للإحصاء إلى أن النساء أكثر عرضة للفقر من الرجال، بنسبة 48.2% في المدن و43.5% في الأرياف. هذا الواقع يعكس هشاشة البنية الاقتصادية، ويُبرز الحاجة لإجراءات عاجلة تعزز استقلالية المرأة.
فجوة تعليمية تعمق التهميش
أما على مستوى التعليم، فالصورة أكثر قتامة. فقط 32% من النساء بين 15 و49 عامًا قادرات على القراءة والكتابة، و48% من الفتيات لم يلتحقن بالمدرسة أساسًا. يُعزى ذلك إلى الزواج المبكر، والفقر، ومسؤوليات الأسرة، مما يُقيد فرص المرأة الصومالية في دخول سوق العمل.
التعليم: بوابة الأمل أمام المرأة الصومالية
تبرز الفتيات الصوماليات كأكثر الفئات تضررًا من غياب العدالة التعليمية. وبينما يبدو الوصول إلى المدرسة أمرًا بديهيًا في أماكن أخرى، فإن الفتيات في الصومال ما زلن يُواجهن عقبات معفدة، تبدأ من التمييز في فرص التعليم، ولا تنتهي عند حدود الفقر والعادات.
تشير الأرقام الصادرة في عام 2022 إلى أن الفتيات لا يشكلن سوى 28٪ من إجمالي الطلاب في المدارس، مقابل 72٪ من الذكور، فيما لا تتجاوز نسبة الإلمام بالقراءة والكتابة بين النساء البالغات 22٪، مقارنة بـ54٪ بين الرجال. أرقام تُجسد واقعًا تعليميًا يُقصي نصف المجتمع من حقه الطبيعي في التعلم، ويُضعف فرص التمكين التي تحتاجها المرأة الصومالية في مسيرتها نحو الاستقلال.
جيدو: بارقة أمل في ليلًا قاتم
لكن وسط هذا المشهد القاتم، يخرج شعاع نور من منطقة جيدو، التي رغم استمرار النزاع، شهدت مؤخرًا تقدمًا ملموسًا في تعليم الفتيات. ففي قضاء بلد هاوو وحده، تم تسجيل أكثر من 12 ألف طالب، 45% منهم من الفتيات. وتشير التقارير المحلية إلى أن بعض القرى الريفية، مثل “بلد أمين”، تشهد إقبالًا متزايدًا من الأهالي على تسجيل بناتهم في المدارس، وهو مؤشر مهم على تغير تدريجي في الوعي المجتمعي.
عوائق تمنع من الالتحاق بجامعة جيدو

ومع أن هذا التقدم يبعث على التفاؤل، إلا أن التحديات لا تزال ماثلة. فالرسوم الدراسية تمثل عائقًا رئيسيًا، إذ غالبًا ما يُفضل الآباء تخصيصها لتعليم الذكور. وفي المناطق الريفية، تواجه الفتيات تحديات كبيرة في مواصلة التعليم الثانوي، نتيجة لبُعد المدارس، ونقص المرافق التعليمية، بالإضافة إلى الضغوط الاجتماعية التي تدفع بهن نحو الزواج المبكر أو التفرغ للأعمال المنزلية.
كما أشار أكاديميون من جامعة جيدو، فإن الكثير من الأهالي ما زالوا يرون أن تعليم الفتاة يجب أن يتوقف عند “الحد الأدنى”، وأن القراءة والكتابة تكفيها لأداء دورها كزوجة وأم. وهي نظرة تدل على تمييز واضح، وتحرم المرأة الصومالية من فرص حقيقية لتطوير مهاراتها ومعارفها، ما يحدّ من قدرتها على الانخراط بفعالية في الشأنين الاقتصادي والسياسي.
التعليم كمعركة وجود المرأة الصومالية
في ظل هذه التحديات المتداخلة، يُصبح تعليم الفتاة الصومالية قضية تتجاوز الحقوق الفردية، لتكون جزءًا لا يتجزأ من معركة بناء الدولة والمجتمع بعد عقود من النزاعات. الأم مدرسة إذا أعدتها اعدت شعب طيب الأعراق، فالأم المتعلمة لا تُنقذ أسرتها فحسب، بل تُشكل النواة الأولى لمجتمع أكثر وعيًا واستقرارًا، حيث تُعد المرأة الصومالية ركيزة لا غنى عنها في أي مشروع تنموي حقيقي.
تعليم المرأة الصومالية: أزمة متجذرة في الفقر والنزوح والجفاف

تُعد نسبة الالتحاق بالمدارس الابتدائية في الصومال من بين الأدنى عالميًا، حيث لا تتجاوز 21%. هذا الواقع يُجسد التحديات الهائلة التي تواجه النظام التعليمي، خاصة في ظل استمرار الجفاف بين عامي 2021 و2023، والذي أدى إلى أزمة جوع واسعة النطاق ونزوح أكثر من 1.3 مليون شخص، كان من بينهم نحو 400 ألف طفل مهددين بالتسرب الدائم من التعليم.
التمييز الجندري: عائق إضافي أمام تعليم الفتيات
ورغم أن التعليم محدود لكلا الجنسين، فإن الفتيات يتأثرن بشكل غير متناسب بسبب الأعراف الاجتماعية التي تُفضل تعليم الذكور. وتشكل الأعباء المنزلية الثقيلة، والزواج المبكر، وغياب الدعم المجتمعي عقبات إضافية تُقيد فرص الفتيات في الالتحاق بالمدرسة أو الاستمرار فيها.
مشروع AGES: مبادرة لتغيير واقع تعليم المرأة الصومالية
ضمن الجهود الرامية لتغيير هذا الواقع، أطلقت منظمة “كير الدولية مشروع تعليم الفتيات المراهقات في الصومال (AGES) بين عامي 2018 و2024، بتمويل من جهات دولية مثل الوكالة البريطانية للتنمية الدولية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. استهدف المشروع الفتيات المهمشات، خاصة من خلفيات تعاني من النزوح، أو الانتماء إلى أقليات، أو الإعاقة، أو ظروف معيشية رعوية.
عبر نهج متكامل، عمل المشروع بالتنسيق مع وزارة التربية لتسجيل الفتيات في برامج تعليمية مصممة خصيصًا لاحتياجاتهن، كما سعى لتغيير المواقف الاجتماعية داخل البيوت والمدارس تجاه تعليم المرأة الصومالية.
تمكين متكامل: التعليم والحياة والعمل
شمل المشروع مكونات تعليمية ومهارية، منها:
- تدريب على الثقافة المالية وإدارة الأعمال
- منح نقدية تخفف الأعباء الاقتصادية
- إنشاء مجموعات ادخار وربط الفتيات بالبنوك
- تقديم الإرشاد لتعزيز القيادة والثقة بالنفس
- أنشطة مجتمعية تدعم حقوق الفتيات
نتائج ملموسة: تغيير حقيقي في مواقف الأسر
أحد أبرز نتائج المشروع كان التغيير الملحوظ في وعي الأسر. فعند انطلاق المشروع، كان 36% من أولياء الأمور يعتبرون انسحاب الفتاة من المدرسة للمساعدة في أعمال المنزل أمرًا مقبولًا. لكن هذه النسبة تراجعت إلى 12% في منتصف مدة المشروع، ما يعكس تحولًا ملموسًا في النظرة إلى أهمية تعليم الفتيات ودورهن المجتمعي.
قالت طالبة في برنامج AGES، مدينة كيسمايو، أفتقد المدرسة عندما أمرض أو عندما يطلب والداي مساعدتي. على مدار العامين أو الثلاثة أعوام الماضية، تغير هذا الوضع وتحسن، إذ أدرك والداي عواقب غيابي، ولم يعودا بحاجة إلى مساعدتي.”
دعم مالي وتدريب: نحو الاستقلال الفعلي
أظهرت دراسة أجرتها منظمة CARE أن 90.6% من أولياء الأمور الذين تلقوا دعمًا ماليًا عبر برنامج AGES لاحظوا تحسنًا في فرص التحاق بناتهم بالمدرسة، و91% أكدوا أن هذا الدعم ساعد على انتظام الفتيات في الحضور المدرسي.
أما التدريب على المهارات المالية، فقد منح الفتيات الثقة للانخراط في أنشطة تجارية بسيطة ساعدتهن على تحقيق دخل، وتعزيز مكانتهن داخل أسرهن ومجتمعاتهن.
في البداية، لم أكن قادرة على ممارسة الأعمال التجارية، وكنت أعتقد أنني لن أصل إلى أي مكان، لكنني الآن سيدة أعمال. أؤمن بقدرتي لأنني تعلمت الرياضيات. ساعدتني المدرسة ليس فقط على التعلم، بل على ممارسة الأعمال التجارية أيضًا
الزواج المبكر: الطفولة تنكسر تحت ستار العرف

رغم تراجع النسبة مقارنة بعام 2017، لا يزال زواج الأطفال يشكل أحد أبرز العوائق أمام تمكين الفتيات في الصومال، إذ تُظهر البيانات أن أكثر من ثلث النساء الصوماليات تزوجن قبل سن 18، فيما لا يزال غياب قانون يحدد الحد الأدنى لعمر الزواج يشجع على استمرار هذه الممارسات، خاصة في المجتمعات التي تُغلّب العرف على القانون.
قضية كارمو: صدمة وطنية تكشف حجم الانتهاك

حادثة الطفلة ذات الثماني سنوات في كارمو فجّرت موجة غضب شعبية بعد الكشف عن اختطافها وتزويجها قسرًا، مما أبرز الحاجة الملحّة لتدخل تشريعي يضمن حماية حقوق الطفلات. وتؤدي هذه الممارسة إلى حرمان الفتيات من التعليم وتعميق الفقر والتبعية، ما يستوجب وقفة جادة من المجتمع والدولة على حد سواء.
تعرف المزيد: المشاريع الصغيرة في الصومال.. قصص نجاح تصنع الأمل وسط الأزمات
رغم المبادرات الواعدة، فإن الطريق نحو تحقيق المساواة الكاملة لا يزال طويلًا. الأمر يتطلب إرادة سياسية مستدامة، وتغييرًا عميقًا في البنية الثقافية والاجتماعية، وإشراكًا حقيقيًا للمجتمع المدني والمنظمات النسوية.
إن مستقبل الصومال مرهون بقدرة المرأة الصومالية على أداء دورهها الكامل، ليس فقط كمستفيداة من التنمية، بل كشريكة أساسية في صنع القرار، وصياغة السلام، وبناء الدولة على أسس أكثر عدلًا وشمولًا.