رغم تقيد القرصنة في السنوات الأخيرة، عادت هجمات القرصنة قبالة السواحل الصومالية إلى الواجهة، مدفوعة بتراكمات تاريخية من التهميش الاقتصادي، والصيد الجائر من قِبل أساطيل أجنبية، وتفكك مؤسسات الدولة.
بين الدفاع المشروع عن الموارد البحرية والتورط في أعمال عنف وخطف، تتراوح الروايات وتتعقد الحقائق. كيف نشأت هذه الظاهرة؟ وما الذي يحول دون القضاء النهائي عليها؟
من التهميش إلى التمرد: بداية أزمة الصيد
تبدأ القصة من خليج عدن والمحيط الهندي، حيث واجه الصيادون الصوماليون منذ أوائل التسعينيات سفنًا أجنبية تستنزف مواردهم البحرية بوسائل غير مشروعة مثل صيد الديناميت. تشير التقديرات إلى أن الصومال خسر ما يقارب 300 مليون دولار سنويًا نتيجة لهذا الصيد الجائر، في ظل غياب حكومة قادرة على حماية المياه الإقليمية.
وهو ما دفع بعض المجتمعات الساحلية إلى تشكيل مجموعات مسلحة تُعرف ذاتيًا باسم “خفر السواحل الشعبي”، تقول إنها تدافع عن حقوقها ضد السفن المتعدية، متهمة تلك السفن بسرقة الثروات البحرية وتسميم المياه بالنفايات السامة والنووية.
مياه غنية وثروات منسية
رغم الإمكانات الكبيرة التي تمتلكها المياه الصومالية في مجال مصائد الأسماك، فإن قطاع الصيد المحلي بقي ضعيفًا، بينما مارست السفن الأجنبية الصيد في هذه المنطقة لعقود دون رقابة تُذكر. وبحلول التسعينيات، وبعد انهيار حكومة سياد بري، ارتفع النشاط الأجنبي في الصيد إلى أكثر من عشرين ضعفًا، مما أدى إلى تدهور الحياة البحرية ودفع الصيادين الصوماليين إلى الدفاع عن سبل عيشهم بكل السبل الممكنة.
من الدفاع إلى الهجوم: ولادة القرصنة قبالة السواحل الصومالية
مع غياب الحماية البحرية، تطورت عمليات خفر السواحل الشعبي إلى احتجاز سفن وطلب فدية، لتتحول إلى ظاهرة القرصنة قبالة السواحل الصومالية كما يعرفها العالم. ورغم أن بعض القراصنة أعلنوا استعدادهم للتوقف مقابل إنشاء خفر سواحل رسمي، فإن غياب الدولة جعل هذا الحل بعيد المنال.
وسرعان ما تحولت القرصنة إلى تجارة مربحة، انخرط فيها شباب عاطلون، وميليشيات، وحتى مسؤولون سابقون، في ظل انعدام الرقابة وغياب القانون.
تهديد عالمي ورد دولي متأخر
تصاعد القلق الدولي مع تأثير القرصنة قبالة السواحل الصومالية على التجارة العالمية، خاصة في ممرات شحن رئيسية تمر عبر خليج عدن. وردًا على ذلك، أنشأت الولايات المتحدة وحلفاؤها قوة المهام المشتركة 150، وهي تحالف دولي لمكافحة القرصنة قبالة السواحل الصومالية، شمل دولًا مثل فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، والسعودية، وغيرها.
أسهمت الدوريات البحرية والتدابير الأمنية المشددة في تراجع الهجمات تدريجيًا منذ عام 2010، حتى أُزيل تصنيف السواحل الصومالية كـ”منطقة خطر” مطلع عام 2023.
أبرز محطات القرصنة قبالة السواحل الصومالية (2005 – 2024)
- 2005: اعتراض أول سفينة مخطوفة بمشاركة أمريكية وبريطانية، واعتقال الخاطفين دون مقاومة.
- 2007: مقتل بحار صيني، وتدخل أمريكي نادر لتحرير سفينة كورية شمالية.
- 2008: مجلس الأمن يسمح باستخدام القوة، وبدء استهداف ناقلات النفط والسفن الكبيرة.
- 2009: الحادثة الشهيرة لسفينة “ميرسك ألاباما”، ومقتل القراصنة الثلاثة، وبدء تمويل دولي لدعم أمن الصومال.
- 2010: عمليات خاصة روسية وكورية جنوبية ويونانية لتحرير سفن مختطفة.
- 2011: تدخلات عسكرية مكثفة من دول عدة، أبرزها الهند والدنمارك، لتحرير رهائن واحتجاز قراصنة.
- 2012: إنقاذ رهائن إيرانيين وأجانب في عمليات بحرية أمريكية وأوروبية، واختطاف صحفي أمريكي.
- 2013: شهدت الهجمات تراجعًا كبيرًا، إذ تشير التقارير إلى انخفاضها بنسبة تصل إلى 90%.
- 2015: الاتحاد الأوروبي يعلن نجاح عملية “أتلانتا” في احتواء القرصنة.
- 2017: عودة أول عملية اختطاف لسفينة تجارية منذ 5 سنوات.
- 2023: رفع “منطقة الخطر العالية” في المحيط الهندي، لكن تزايدت الهجمات مجددًا لاحقًا.
- 2024: عادت أعمال القرصنة إلى الواجهة مؤخرًا، مع تسجيل حوادث اختطاف مثل سفينة “إم في عبد الله”، وسط تصاعد واضح في التدخلات البحرية، أبرزها من جانب البحرية الهندية.
عودة تهديد القرصنة قبالة السواحل الصومالية بعد حرب غزة
لكن في نهاية 2023، وبالتزامن مع تصاعد الحرب في غزة، عادت القرصنة قبالة السواحل الصومالية إلى الواجهة. وفي ديسمبر، سُجلت أول عملية اختطاف ناجحة منذ ست سنوات. وفي مارس 2024، نفّذت البحرية الهندية عملية نوعية حرّرت خلالها سفينة كانت محتجزة من قِبل قراصنة، وأسفرت العملية عن توقيف ومحاكمة 35 قرصانًا في مدينة مومباي، في خطوة أعادت تسليط الضوء على التهديد المتجدد قبالة السواحل الصومالية.
ووفقًا لمكتب الملاحة البحرية الدولي، لا تزال الجماعات القراصنة قبالة السواحل الصومالية تملك القدرة والموارد لشن هجمات جديدة في منطقة خليج عدن، ما يؤكد أن أسباب الأزمة لم تُعالج جذريًا بعد.
خلفيات تاريخية: عندما كانت الصومال مركزًا واعدًا للصيد
في الثمانينيات، سعت الحكومة الصومالية لتطوير قطاع الصيد عبر التعاونيات والمشاريع الاستثمارية المشتركة مع دول مثل العراق وإيطاليا. لكن انهيار الدولة في بداية التسعينيات وضع نهاية لهذا الطموح، ومعه تفككت البحرية الوطنية، ليبدأ عصر من الفوضى البحرية والانتهاكات البيئية، عصر القراصنة قبالة السواحل الصومالية
نفايات سامة وفساد بلا حدود
إلى جانب الصيد الجائر، اتهم الصوماليون جهات أجنبية بإلقاء نفايات نووية وصناعية في مياههم، ما أدى لتلوث البيئة ومقتل أطفال، بحسب شهادات محلية.وفي ظل ضعف الحكومة الفيدرالية الانتقالية، برزت تقارير تشير إلى تورط بعض المسؤولين في أنشطة القرصنة، سواء عبر التغاضي المتعمد أو المشاركة المباشرة، مقابل الحصول على حصة من عائدات الفدية.
تحولات وتدخلات..
مع تدخلات دولية وتحسين الإجراءات الأمنية، تراجع نشاط القرصنة بشكل ملحوظ بحلول 2012. وتمكنت حكومة بونتلاند من السيطرة على بعض النقاط الساخنة، وشاركت في عمليات أمنية بحرية فعالة.
وفي فبراير 2012، عُقد مؤتمر لندن بشأن الصومال، لبحث جذور المشكلة ووضع حلول طويلة الأمد، لكن غياب الحوكمة الشاملة والعدالة الاقتصادية حال دون القضاء التام على الظاهرة
القراصنة قبالة السواحل الصومالية ..مشكلة لم تنتهِ بعد..
رغم التحسن الأمني النسبي، فإن عودة القرصنة قبالة السواحل الصومالية تعكس خللًا أعمق. فالفقر، والتهميش، وغياب الدولة، والفساد، واستمرار الصيد غير المشروع، تظل عوامل هي العوامل الأساسية للمشكلة.
التعامل الأمني وحده لن يكفي، ما لم يُعالج السبب الجذري: الاستغلال الأجنبي للموارد البحرية الصومالية، وحرمان المجتمعات المحلية من فرصها المشروعة.
خلفيه تعرفيه عن القراصنة القرصنة قبالة السواحل الصومال:
من هم القراصنة؟
معظم القرصنة قبالة السواحل الصومالية، هم من الشباب الذين ينحدرون من مناطق الصراع جنوب البلاد. ووفقًا لقائمة رسمية أصدرتها الحكومة الصومالية عام 2010، وُلد 80% من المقبوض عليهم في تلك المناطق المضطربة، مقابل 20% فقط من الشمال المستقر نسبيًا.
وبعد أن كانت بونتلاند الشمالية الشرقية نقطة الانطلاق الأساسية، أصبحت منطقة غالمودوغ في الوسط مركزًا رئيسيًا للعمليات، خاصة بعد أن أنشأت بونتلاند قوة شرطة بحرية وشنت حملات صارمة ضدهم.
ثلاث فئات رئيسية
ينقسم القرصنة قبالة السواحل الصومالية إلى ثلاث فئات رئيسية:
- صيادون محليون: يتمتعون بمعرفة دقيقة بالمياه البحرية.
- مقاتلون سابقون: خدموا في ميليشيات عشائرية أو في جيش الحكومة السابقة.
- خبراء تقنيون: يتولون تشغيل أجهزة الملاحة وتحديد المواقع.
رغم أن كلمة “قرصان” تُترجم إلى بوركاد باديد، يفضل القراصنة وصف أنفسهم بـ”منقذي البحر” أو “خفر السواحل”، في محاولة لتبرير نشاطهم كدفاع عن المياه الصومالية.
التكتيك: هجوم منظم بلا دماء
تُشن الهجمات غالبًا خلال النهار، باستخدام زوارق سريعة وسفن أم استُولي عليها مسبقًا. يبدأ الهجوم بترهيب الطاقم باستخدام قاذفات RPG وأسلحة خفيفة، ثم يصعد القراصنة على متن السفينة ويسيطرون على الجسر.
اللافت أنهم لا يلجؤون للعنف، بل يباشرون التفاوض مع بنك السفينة للحصول على فدية قد تستغرق أيامًا. يتم تسليم الأموال نقدًا، عادة عبر طائرات مروحية أو زوارق خاصة.
تعرف المزيد: ثورة حليب الإبل في الصومال: صناعة محلية تنهض بالتغذية وتخلق آلاف الوظائف في 2025
تمويل معولم
تأتي الأسلحة غالبًا من اليمن أو من تجار في مقديشو، بوساطة تجار الحوالة. وتُدار بعض عمليات القرصنة قبالة السواحل الصومالية كما لو كانت مشاريع استثمارية، عبر بورصات محلية مثل هرارديري حيث تُباع “أسهم” في الهجمات المقبلة.
وتشير تقارير أممية إلى دعم مالي ولوجستي من بعض المغتربين الصوماليين، إضافة إلى محاولات من حركة الشباب المتشددة لفرض إتاوات أو الدخول في شراكة مع القراصنة. وهناك مؤشرات على احتمالية استفادة تنظيم القاعدة من بعض عائدات الفدية.