الذكاء الاصطناعي والموضة يشكّلان اليوم ثنائيًا غير متوقّع يعيد صياغة مشهد الموضة الراقية من جذوره. ففي زمن تتقاطع فيه الخوارزميات مع الأقمشة، وتُستبدل أوراق الرسم بلوحات رقمية، لم يعد الذوق الإبداعي حكرًا على الإنسان وحده. بل باتت الآلات، بما تملكه من قدرة على التعلم والتخيّل، شريكًا فعالًا في صياغة الجمال والتميز. فهل نحن أمام ثورة حقيقية تعيد تعريف مفاهيم الذوق والتصميم والتفرّد في عالم الأزياء الفاخرة؟
من الرسم اليدوي إلى الخوارزميات الذكية
لطالما ارتبطت الموضة الراقية بالإبداع البشري الصافي، حيث يرسم المصممون تصاميمهم الأولى بقلم رصاص على ورق قبل أن تتحول إلى قطع تسرق الأضواء على منصات العروض. لكن هذا المشهد بدأ يتغير تدريجيًا مع دخول الذكاء الاصطناعي على الخط، مما أحدث ثورة صامتة في العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والموضة.
فبفضل تقنيات “التعلم العميق” و”النماذج التوليدية”، أصبح بمقدور برامج الذكاء الاصطناعي تحليل آلاف الصور وتصميمات الأزياء السابقة، واستخلاص الأنماط الجمالية وتوليد تصاميم جديدة خلال دقائق فقط.
شركة “دال إي” (DALL·E) من OpenAI، على سبيل المثال، يمكنها إنشاء تصميم لثوب سهرة بناءً على وصف لغوي بسيط. وباستخدام أدوات مشابهة، باتت بعض دور الأزياء قادرة على اختبار مفاهيم إبداعية جديدة دون إنفاق وقت أو موارد، مما يعكس الإمكانات المتزايدة التي تقدمها تقنيات الذكاء الاصطناعي والموضة معًا لتجديد قواعد اللعبة.
الذكاء الاصطناعي والموضة..شراكات بين التقنية والأزياء

عالم الموضة لم يقف متفرجاً. فقد بادرت دور أزياء كبرى إلى استكشاف الإمكانات الكامنة في الذكاء الاصطناعي. دار “Balenciaga”، على سبيل المثال، تعاونت مع فنانين رقميين لتوليد حملات مستوحاة من الذكاء الاصطناعي، بينما استخدمت “H&M” تقنيات تحليل البيانات المدعومة بالذكاء الاصطناعي لتوقّع الاتجاهات المستقبلية وتقديم ما يناسب كل سوق على حدة.
بل أكثر من ذلك، استخدمت دار “Tommy Hilfiger” نظام ذكاء اصطناعي للتنبؤ بألوان الموسم المقبل استنادًا إلى تحليلات وسائل التواصل الاجتماعي والبيانات الثقافية. هذه البيانات ساعدت في تقليل النفايات الإنتاجية وتصميم قطع أكثر قربًا لذوق الجمهور.
هل يهدد الذكاء الاصطناعي المصممين؟
هنا يبرز سؤال جوهري: هل ستُقصى الأيدي البشرية من عالم الموضة؟ ويبدأ عصر الذكاء الاصطناعي والموضة الرقمية
رغم قدرات الذكاء الاصطناعي على “التصميم”، فإنه يفتقر إلى السياق الثقافي واللمسة العاطفية. المصمم البشري قادر على فهم الرمز والدلالة والمزاج العام بطريقة لا تستطيع الآلات محاكاتها بالكامل.
يقول المصمم اللبناني إيلي صعب: الإلهام لا يُبرمج. الذكاء الاصطناعي قد يساعد في الأدوات، لكن الجوهر يبقى إنسانيًّا. ويشاطره الرأي مصممون كثر يرون أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون مساعدًا لا بديلًا.
الذكاء الاصطناعي والموضة.. سلاسل متصلة

الذكاء الاصطناعي لا يقتصر دوره على التصاميم فحسب، بل يتعداها إلى سلاسل الإمداد والتوزيع. فمثلًا، باتت خوارزميات الذكاء الاصطناعي تساهم في تحديد كمية المنتجات الواجب تصنيعها، وتقليل الفاقد، وتوزيع القطع على المتاجر وفقًا لاحتياجات كل منطقة.
هذه التكنولوجيا أصبحت حيوية في مواكبة طلب المستهلكين وتقليل أثر صناعة الموضة على البيئة، خصوصًا أن هذه الصناعة تُعد من الأكثر تلويثًا عالميًا.
تجربة تسوق افتراضية

الذكاء الاصطناعي يغيّر أيضًا طريقة الشراء والتسوق. من خلال تحليل تاريخ التصفح والشراء، باتت المنصات الإلكترونية توصي بقطع تناسب ذوق المستهلك بدقة مدهشة.
كما ظهرت تطبيقات تسمح للمستخدم بتجربة الملابس افتراضيًا على صورته الشخصية باستخدام تقنية الواقع المعزز، مما يحسّن تجربة التسوق ويقلل من نسب إعادة المنتجات.
الذكاء الاصطناعي والموضة.. عارضي أزياء بلا أجساد؟
في سابقة غريبة، ظهرت عارضات أزياء افتراضيات بالكامل، من تصميم الذكاء الاصطناعي و الموضة. إحداهن تُدعى “ميكيلا”، ولديها ملايين المتابعين على إنستغرام وتشارك في حملات لعلامات تجارية كبرى. هذا التوجه يطرح سؤالًا صادمًا: هل ستستبدل الموضة في المستقبل عارضي الأزياء بالبكسل والخوارزميات؟
صوت الجمهور: قلق وتفاؤل
يرى بعض المتابعين أن الذكاء الاصطناعي يهدد “روح الموضة”، إذ يجرّدها من طابعها الإنساني ويحوّلها إلى مسألة حسابات. بينما يرى آخرون أنه أداة تمكّن المصممين وتفتح آفاقًا جديدة غير مسبوقة في التجريب والإبداع.
اللافت أن الجيل الشاب -خاصة المهتمين بالميتافيرس والأزياء الرقمية- يتقبل الذكاء الاصطناعي كجزء من المشهد الجديد، بل ويتفاعل معه بشكل إيجابي.
إلى أين تتجه الموضة الراقية؟

المستقبل لا يبدو ثنائي اللون بين الأبيض والأسود. الأرجح أن الذكاء الاصطناعي والموضة لن يُقصي المصممين، بل سيعيد تعريف أدوارهم. سيكون المصمم هو من يوجّه الآلة ويختار من بين ملايين الخيارات ما يعبر عن رؤيته.
الذكاء الاصطناعي سيصبح “المساعد الذكي” لا “البديل الكامل”. تمامًا كما لم تُقصِ آلات الخياطة الخياطين، بل حسّنت إنتاجهم، فإن الذكاء الاصطناعي يعد بتعزيز القدرات لا محوها.
تعرف المزيد: 5 هواتف أيقونية غيرت عالم الهواتف المحمولة إلى الأبد
عندما تلتقي الخوارزميات بالأقمشة
في النهاية، الذكاء الاصطناعي والموضة ليسا عالمين متنافرين، بل مجالان في طريق الاندماج. وإذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على التعلم، فالمصمم قادر على الحُلم، والحلم سيبقى دومًا هو جوهر الموضة الراقية.