بينما تتصارع واشنطن وبكين على قيادة المستقبل الرقمي، قررت أوروبا هذه المرة ألا تبقى على الهامش. فمع إطلاق المفوضية الأوروبية لاستراتيجية “Apply AI”، تستعد القارة العجوز لدخول معركة جديدة عنوانها الذكاء الاصطناعي في أوروبا، بهدف تقليل التبعية للولايات المتحدة والصين وبناء منظومة تكنولوجية محلية ذات طابع سيادي.
الرهان ليس اقتصاديًا فقط، بل هو سباق على من يملك مفاتيح الخوارزميات التي ستقود العالم في العقد القادم.
من “الذكاء المستورد” إلى “الذكاء الأوروبي”

لسنوات طويلة، اعتمد الاتحاد الأوروبي على شركات أمريكية مثل OpenAI وGoogle وMicrosoft في تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي، وعلى معدات آسيوية لتصنيع الرقاقات والمعالجات. هذا الاعتماد جعل القارة عرضة للضغوط الاقتصادية والسياسية في أوقات التوتر الجيوسياسي.
لكن اليوم، تتجه بروكسل نحو مرحلة جديدة تسعى فيها لتحويل الذكاء الاصطناعي في أوروبا من مجرد استهلاك للتكنولوجيا إلى صناعة محلية متكاملة.
التحول من “المستورد” إلى “المنتج” لم يعد خيارًا، بل ضرورة وجودية لضمان استقلال أوروبا الرقمي.
ما الذي تريده بروكسل؟

تسعى المفوضية الأوروبية من خلال استراتيجية “Apply AI” إلى بناء بيئة تكنولوجية محلية متماسكة، تتضمن:
تعزيز الأدوات الأوروبية مفتوحة المصدر في مجالات التعليم والصناعة.
تطوير حلول الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية والدفاع والأمن.
إنشاء شبكة ذكاء اصطناعي سيادية داخل الاتحاد الأوروبي.
ضخ مليار يورو لتمويل المشاريع المحلية الناشئة.
الهدف النهائي هو تحويل الذكاء الاصطناعي في أوروبا إلى ركيزة اقتصادية وصناعية تقود الابتكار وتقلل الاعتماد على الخارج.
من “سيليكون فالي” إلى “وادي السيادة الأوروبية”
تحلم بروكسل بإقامة ما يشبه “سيليكون فالي الأوروبي”، حيث تكون الشركات الناشئة المحلية قادرة على منافسة عمالقة وادي السيليكون الأمريكي، ليس فقط في التطوير التقني بل في رسم مستقبل التكنولوجيا نفسها.

هل يولد الذكاء الاصطناعي الأوروبي من رحم الخوف؟
التحركات الأوروبية ليست محض طموح تكنولوجي؛ بل مدفوعة بالخوف من فقدان السيطرة.
فعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أعادت المخاوف من احتمال تقليص الدعم الأمريكي للتحالفات الأوروبية، مما جعل الذكاء الاصطناعي في أوروبا أداة استراتيجية لحماية الاستقلال الرقمي.
في الوقت ذاته، يثير التفوق الصيني السريع في الذكاء الاصطناعي التوليدي قلق القادة الأوروبيين من أن تصبح القارة مجرد “سوق مستخدم” لتقنيات الآخرين.
وبين الطموح والخوف، تتبلور هوية جديدة لأوروبا: قارة تبحث عن مكانها في معادلة الذكاء العالمي.
الذكاء الاصطناعي الدفاعي: المعركة الحقيقية
في زمن تتداخل فيه التكنولوجيا مع الأمن القومي، تدرك بروكسل أن الذكاء الاصطناعي في أوروبا يجب أن يمتد إلى الدفاع والقيادة العسكرية.
تعمل المفوضية على تسريع تطوير أنظمة القيادة والتحكم الأوروبية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، بهدف تقليل الاعتماد على أنظمة الناتو والأمريكيين.
من الروبوت الصناعي إلى الجندي الرقمي الأوروبي

الذكاء الاصطناعي الدفاعي لم يعد رفاهية، بل ضرورة ميدانية. فالجيوش الحديثة تحتاج خوارزميات قادرة على إدارة المعارك والتنبؤ بالتهديدات قبل وقوعها. وهنا تسعى أوروبا إلى بناء جنديها الرقمي القادر على حماية حدودها وخططها المستقبلية دون انتظار تعليمات من واشنطن.
شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة… الأمل الأوروبي
رغم الفجوة التكنولوجية، تشهد القارة نهضة حقيقية في قطاع الشركات الناشئة.
من فرنسا، تبرز شركة Mistral AI كمنافس قوي في تطوير النماذج اللغوية مفتوحة المصدر، بينما تسعى شركة Helsing الألمانية إلى إدماج الذكاء الاصطناعي في الدفاع والأمن الأوروبي.
هذه الشركات تمثل جيلًا جديدًا يقاوم الهيمنة الرقمية ويسعى لجعل الذكاء الاصطناعي في أوروبا صناعة سيادية قائمة على الابتكار المحلي، وليس التبعية للموردين الأجانب.
ذكاء أوروبي… بمعادن آسيوية؟
لكن رغم هذا الطموح، تبقى الحقيقة أن أوروبا لا تزال تعتمد على آسيا في تأمين المعادن النادرة والرقاقات الدقيقة التي تُعد عصب تطوير الخوارزميات.
هذا الواقع يطرح سؤالًا جادًا حول مدى قدرة الذكاء الاصطناعي في أوروبا على تحقيق السيادة الكاملة دون السيطرة على سلاسل الإمداد الحيوية.
قد تبني أوروبا برمجياتها الخاصة، لكنها ستظل بحاجة إلى سيليكون تايوان ومعادن الصين… على الأقل في الوقت الحالي.
أوروبا بين الحلم الرقمي والواقع الصناعي
تسعى القارة الأوروبية بكل قوتها لتثبيت مكانتها في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي.
لكن الطريق ليس مفروشًا بالابتكارات فقط، بل مليء بالتحديات التقنية والسياسية.
فبينما تمتلك الولايات المتحدة الشركات العملاقة، وتملك الصين القدرة التصنيعية الهائلة، تحاول أوروبا صياغة طريق ثالث يجمع بين الابتكار والمسؤولية والسيادة الرقمية.
تعرف المزيد: 8 مناطق مذهلة داخل أول مركز لتجربة الروبوتات البشرية في الصين
في النهاية، الذكاء الاصطناعي في أوروبا ليس مجرد مشروع تكنولوجي، بل محاولة لإعادة تعريف مفهوم القوة في القرن الحادي والعشرين.
السباق نحو المستقبل لم يعد سباقًا على الاقتصاد أو البيانات فحسب، بل على من يكتب خوارزميات الغد ويسيطر على عقول الآلات.