يمثل إغلاق معهد تكوين الأئمة في فرنسا نقطة تحول فارقة في المواجهة بين الدولة الفرنسية وجماعة الإخوان المسلمين، بعد ثلاثة عقود من نشاطه الذي وُصف بأنه “واجهة ناعمة” للتنظيم داخل القارة الأوروبية. فبينما تصر باريس على أن القرار جاء لحماية قيم الجمهورية ومواجهة “الإسلام السياسي”، تتصاعد الأسئلة حول تبعات هذه الخطوة على الجالية المسلمة، ومستقبل تكوين الأئمة، وتداعياتها على الساحة الأوروبية والدولي
القرار الفرنسي: من الإغلاق إلى تجميد الأصول

أعلن وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو، يوم الأربعاء 18 سبتمبر 2025، خلال اجتماع لمجلس الوزراء، عن إغلاق معهد تكوين الأئمة في فرنسا المعروف بالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية (IESH). القرار لم يقتصر على الحل الإداري فحسب، بل شمل وقف الأنشطة التعليمية وتجميد الأصول المالية للمعهد وقادته، ضمن إجراءات مرتبطة بمكافحة تمويل الإرهاب.
وبحسب السلطات الفرنسية، جاءت الخطوة بعد تحقيقات موسعة أثبتت أن المعهد يروج لفكر متشدد، يشرعن العنف، ويشكل أداة لاختراق المجتمع الفرنسي تحت ستار التعليم الديني.
الجالية المسلمة: فراغ ديني يلوح في الأفاق

أول تبعات إغلاق معهد تكوين الأئمة في فرنسا تطال الجالية المسلمة التي كانت تعتمد على خريجي المعهد لإدارة المساجد والخطابة. كثير من المسلمين في فرنسا يعانون أصلًا من نقص الأئمة الناطقين بالفرنسية، والقرار قد يزيد من هذا العجز.
تخشى بعض الجمعيات الإسلامية من أن يؤدي الإغلاق إلى فراغ ديني تستغله تيارات أكثر تشددًا عبر الإنترنت أو من خارج الحدود، في ظل غياب بدائل مؤسسية واضحة. بينما يرى آخرون أن القرار قد يفتح الباب لتكوين أئمة “على الطريقة الفرنسية”، ينسجم خطابهم مع قيم الجمهورية ويقطع الطريق على الإسلام السياسي.
أوروبا على خط المواجهة: هل فرنسا الأكثر صرامة؟

لا يمكن فصل إغلاق معهد تكوين الأئمة في فرنسا عن سياق أوروبي أوسع. فالنمسا سبقت إلى إجراءات مماثلة، حيث أغلقت مؤسسات مرتبطة بالإسلام السياسي عام 2021، فيما شددت ألمانيا الرقابة على الجمعيات الممولة من الخارج.
لكن فرنسا تبدو النموذج الأكثر صرامة اليوم، إذ لم تكتف بحل الجمعيات المشبوهة، بل استهدفت مؤسسة تعليمية كبرى تأسست منذ 1992. هذا التحول يعكس رغبة باريس في تصدر المواجهة الأوروبية ضد الإخوان، وربما دفع دول أخرى لتبني مقاربة مشابهة.
السياسة الداخلية: معركة ماكرون واليمين

قرار إغلاق معهد تكوين الأئمة في فرنسا يحمل أيضًا بعدًا سياسيًا داخليًا. فالرئيس إيمانويل ماكرون يسعى لإثبات حزمه في مواجهة التطرف، وسحب ورقة “محاربة الإسلام السياسي” من يد اليمين المتطرف، الذي طالما اتهم الحكومة بالتساهل.
إغلاق المعهد يمنح الحكومة نقاطًا سياسية قبيل الاستحقاقات الانتخابية، لكنه يضعها أيضًا أمام تحدي إقناع الجالية المسلمة بأنها لا تستهدف الإسلام كدين، بل فقط توظيفه السياسي.
علاقة فرنسا بالعالم الإسلامي: بين الدعم والانتقاد

أثار إغلاق معهد تكوين الأئمة في فرنسا جدلًا في العالم الإسلامي. بعض الدول التي تخشى نفوذ الإخوان رأت فيه خطوة شجاعة، بينما اعتبرته أطراف أخرى تضييقًا على الحريات الدينية للمسلمين في أوروبا.
هذا التباين يعكس المعضلة الفرنسية: كيف تواجه باريس جماعات تراها تهديدًا لأمنها القومي دون أن تضر بعلاقاتها مع شركاء مسلمين أو تُغذي خطاب “التمييز” الذي تستخدمه التنظيمات المتطرفة في دعايتها.
جذور القرار: لماذا الآن؟
المعهد، الذي تأسس عام 1992 على يد اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا (المعروف اليوم باسم “مسلمي فرنسا”)، ظل لعقود أحد أبرز منصات تكوين الأئمة. ورغم تقارير الاستخبارات التي حذرت مبكرًا من طابعه الأيديولوجي، لم تقدم الحكومات السابقة على خطوة الحل.
فلماذا جاء إغلاق معهد تكوين الأئمة في فرنسا الآن؟
الجواب يرتبط بتراكم عوامل:
- صدور تقرير حكومي في مايو 2025 اتهم الإخوان بمحاولة “اختراق بطيء” للمجتمع الفرنسي.
- تحقيقات قضائية في تمويلات أجنبية غير مصرح بها، خاصة من قطر.
- الضغوط السياسية الداخلية لتشديد الرقابة على الإسلام السياسي.
بدائل تكوين الأئمة: بين الدولة والجامعات
يبقى السؤال الأهم: كيف ستسد فرنسا الفراغ بعد إغلاق معهد تكوين الأئمة في فرنسا؟
بعض الأصوات تطالب بإنشاء معاهد وطنية رسمية لتدريب الأئمة تحت إشراف الدولة، فيما يرى آخرون أن الجامعات المدنية هي الأقدر على ضمان تعليم ديني متوافق مع القيم العلمانية.
وزارة الداخلية أشارت سابقًا إلى مشروع “ميثاق الأئمة”، الذي يهدف إلى وضع معايير موحدة للتأهيل، لكن لم يتضح بعد ما إذا كان ذلك يكفي لتلبية احتياجات مئات المساجد المنتشرة في البلاد.
لغة الخطاب: بين السياسة والأمن
لغة الإعلان عن إغلاق معهد تكوين الأئمة في فرنسا حملت رسائل سياسية واضحة: “قيم الجمهورية”، “التطرف”، “الإسلام السياسي”. البعض يرى أنها مجرد شعارات انتخابية، بينما يعتبرها آخرون مؤشرًا على سياسة منهجية طويلة الأمد.
الخطاب يعكس رغبة الحكومة في طمأنة الرأي العام الفرنسي بأنها تسيطر على الوضع، لكنه قد يزيد من شعور المسلمين بأنهم موضوع دائم للريبة. هنا يظهر التحدي الحقيقي: كيف توازن فرنسا بين الأمن والاندماج؟
تعرف المزيد: هجوم يكشف العنصرية السياسية الأمريكية ضد إلهان عمر
نهاية مرحلة وبداية أخرى
إن إغلاق معهد تكوين الأئمة في فرنسا لا يعني نهاية المعركة مع جماعة الإخوان المسلمين، بل بداية فصل جديد. القرار قد يضعف واحدة من أبرز منصات نفوذ التنظيم في أوروبا، لكنه يفتح في المقابل أسئلة أكبر:
- من سيؤهل الأئمة في المستقبل؟
- كيف ستضمن فرنسا خطابًا دينيًا معتدلًا دون تغذية الشعور بالتمييز؟
- وهل تصبح باريس مرجعًا أوروبيًا في مقاربة مواجهة الإسلام السياسي؟
- وهل تصبح باريس مرجعًا أوروبيًا في مقاربة مواجهة الإسلام السياسي؟