يمر الاقتصاد الصومالي بمرحلة دقيقة تجمع بين الأزمة والفرصة، حيث يشكل إصلاح القطاع المصرفي في الصومال ركيزة أساسية لضمان الاستقرار الاقتصادي والنمو الشامل. فبعد سنوات من الاضطراب والانهيار المؤسسي، بدأت البلاد في إعادة بناء نظامها المالي، مدعومة بإصلاحات قانونية، وتطورات رقمية، وتوجه جديد من البنك المركزي نحو الرقابة والشفافية. لكن هذا المسار لا يخلو من عقبات، أبرزها أزمة السيولة، الاعتماد على الدولار، وضعف الشمول المالي، ما يضع الصومال أمام مفترق طرق حقيقي.
نمو سريع رغم القيود

خلال العقد الأخير، شهد إصلاح القطاع المصرفي في الصومال تطورًا ملحوظًا، إذ يوجد اليوم 13 بنكًا مرخصًا تعمل في البلاد، أبرزها بنك أمل، بنك دهبشيل الدولي، بنك سلام الصومالي، وبنك بريميير. إلى جانب ذلك، تلعب شركات الحوالات دورًا رئيسيًا، حيث تعتمد 55% من الأسر الصومالية على التحويلات من الخارج، والتي تقدر بنحو ملياري دولار سنويًا، أي ما يقارب 30% من الناتج المحلي الإجمالي.
ورغم النمو اللافت، يبقى الوصول إلى الخدمات المصرفية محدودًا للغاية، إذ لا يمتلك سوى 9% من البالغين حسابات مصرفية، وغالبيتهم في المدن. في المقابل، يعتمد أكثر من 80% من السكان على خدمات الدفع عبر الهاتف المحمول، التي باتت جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية.
التحديات الجوهرية
مع كل الخطوات الإيجابية، يواجه إصلاح القطاع المصرفي في الصومال مجموعة من التحديات التي قد تهدد مساره:
- أزمة السيولة: البنوك تعاني من صعوبة إدارة السيولة بسبب قلة قنوات الاستثمار وتقييدات التمويل الإسلامي.
- الدولرة: الاعتماد شبه الكامل على الدولار يحد من قدرة البنك المركزي على التحكم في السياسة النقدية.
- ضعف الشمول المالي: سكان الأرياف، النساء، والرعاة لا يزالون خارج المنظومة المصرفية.
- غياب تأمين الودائع: ما يدفع الكثير من الصوماليين للاحتفاظ بمدخراتهم نقدًا أو عبر الهاتف المحمول.
هذه التحديات تجعل عملية إصلاح القطاع المصرفي في الصومال عملية معقدة تتطلب إجراءات مدروسة وشجاعة سياسية.
التحول الرقمي.. فرصة ذهبية

من أبرز ملامح التقدم الراهن انتشار الخدمات المالية الرقمية على نطاق واسع. فبحسب البنك الدولي، يستخدم أكثر من 70% من الصوماليين البالغين هواتفهم لإجراء معاملات مالية، من دفع الفواتير إلى تحويل الأموال.
إطلاق نظام الدفع الوطني الآني (NPS) عام 2021 شكل نقلة نوعية، حيث أتاح ربط البنوك بمعاملات تتجاوز قيمتها مليار دولار في عامه الأول فقط. كما يجري تطوير نظام رمز الاستجابة السريعة (QR Code) وتوحيد المحافظ الإلكترونية لتسهيل التبادلات المالية.
هذا التحول الرقمي يعزز من إصلاح القطاع المصرفي في الصومال، خاصة مع إدماج الهوية الوطنية الرقمية التي تسهل تطبيق معايير “اعرف عميلك” (KYC)، ما يوسع قاعدة الشمول المالي ويقوي الرقابة.
الإصلاحات القانونية والتنظيمية

لأول مرة منذ عقود، يسن البرلمان الصومالي حزمة من القوانين المصرفية العصرية، تشمل قانون البنك المركزي المعدل، قانون المؤسسات المالية، وقانون أنظمة الدفع والتأمين. هذه التشريعات توفر أساسًا قانونيًا حديثًا يدعم استقلالية الرقابة وحماية المستهلكين.
كما يواصل البنك المركزي جهوده في تعزيز الامتثال لمعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وهو ما يسهم في استعادة العلاقات المصرفية المراسلة مع البنوك الدولية. هذه الخطوة أساسية لتمكين شركات الحوالات من العمل عالميًا، وضمان استمرارية تدفق التحويلات التي تمثل شريان حياة للاقتصاد الصومالي.
كل هذه التطورات تصب في صميم إصلاح القطاع المصرفي في الصومال وتضعه على مسار التحديث والاندماج في النظام المالي الدولي.
الدولرة ومعضلة العملة الوطنية

يبقى التحدي الأصعب هو استعادة الثقة في الشلن الصومالي. فمنذ انهياره في تسعينيات القرن الماضي، هيمن الدولار على جميع التعاملات، ما أفقد البنك المركزي القدرة على التحكم في السياسات النقدية.
الخطة الحالية تقضي بإعادة إدخال الشلن تدريجيًا، بدءًا بفئات صغيرة مدعومة باحتياطيات أجنبية. لكن هذا المسار يتطلب توافقًا سياسيًا واسعًا وثقة شعبية كبيرة، وهو أمر ليس سهلًا في ظل التوترات الداخلية.
التغلب على هذه المعضلة شرط أساسي لنجاح إصلاح القطاع المصرفي في الصومال، لأنه دون عملة وطنية مستقرة سيظل الاقتصاد مرهونًا لتقلبات الدولار والأسواق الخارجية.
فجوة الثقة مع الجمهور
الثقة تبقى حجر الزاوية في أي نظام مصرفي ناجح. وفي الصومال، يفضل كثير من المواطنين الاحتفاظ بأموالهم نقدًا أو عبر خدمات الهاتف المحمول بدلًا من البنوك، لغياب آليات مثل تأمين الودائع.
لذلك، فإن أي خطة لإكمال إصلاح القطاع المصرفي في الصومال يجب أن تبدأ بطمأنة الجمهور عبر إجراءات عملية، مثل إنشاء صندوق وطني لتأمين الودائع، وفرض رقابة صارمة على البنوك، وتطبيق ممارسات شفافة في الإقراض.
الفرص المتاحة

رغم كل العقبات، تملك الصومال فرصًا واعدة إذا ما أحسنت استغلالها:
- التحويلات الضخمة من المغتربين يمكن أن تتحول من مجرد دعم للأسر إلى استثمارات إنتاجية.
- الرقمنة تمنح الصومال فرصة لتجاوز المراحل التقليدية التي مرت بها دول أخرى، والقفز مباشرة إلى اقتصاد رقمي متكامل.
- القوانين الجديدة توفر إطارًا يحمي المستهلكين ويجذب المستثمرين الدوليين.
هذه العوامل تجعل من إصلاح القطاع المصرفي في الصومال مفتاحًا لإطلاق نهضة اقتصادية أشمل.
توصيات للمرحلة المقبلة
حتى يكتمل مشروع إصلاح القطاع المصرفي في الصومال بنجاح، هناك عدة خطوات أساسية:
- إنشاء نظام وطني لتأمين الودائع.
- تعزيز الرقابة الاحترازية على البنوك.
- تسريع دمج الهوية الرقمية مع النظام المالي.
- إطلاق حملات تثقيف عامة حول إعادة إدخال الشلن الصومالي.
- إنشاء مكاتب ائتمان لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة.
تعرف المزيد: حملة تنظيف مقديشو لاستعادة جمال المدينة تعيد الأمل للعاصمة الصومالية
إن إصلاح القطاع المصرفي في الصومال ليس مجرد مشروع اقتصادي، بل هو اختبار حقيقي لقدرة الدولة على استعادة ثقة مواطنيها والمجتمع الدولي. فنجاح هذا القطاع يعني فتح أبواب التمويل، وتشجيع الاستثمار، وتوسيع فرص العمل، وإرساء أسس نمو مستدام. أما الفشل فسيعني بقاء الاقتصاد رهينًا للتحويلات غير الرسمية والدولرة والاعتماد على الهشاشة.
يقف الصومال اليوم عند مفترق طرق حاسم؛ فإما أن يبقى نظامه المصرفي عبئًا يحد من تطوره الاقتصادي، أو يتحول إلى قاعدة صلبة تدعم إعادة بناء الدولة